رغم أن عملية البريد المركزي و "كولي بوسطو" لم يكتب لهما النجاح· الا ان نجاح عملية "المارشي سنطرال" والخسائر التي تكبدها الاستعمار، كل ذلك جعل المهتمين بتاريخ المقاومة، يضعوها على رأس العمليات التي اصابت الاستعمار في مقتل، ماهي ذكرياتك عن الاجواء السائدة عقب هذه العملية؟
بالفعل عملية "المارشي سنطرال" كان لها صدى استثنائي، فأن تتمكن المقاومة من صنع القبائل ونقلها الى المكان المحدد وتركها هناك دون اثارة الانتباه، وفي واضحة النهار، كل ذلك، رفع من اسهم حركة المقاومة المسلحة لدى الرأي العام الداخلي والخارجي· وبدأت تثير الانتباه لدى العديد من الاطراف الخارجية، كما ان عملية "المارشي سنطرال" وقبلها عملية القطار الرابط بين الدار البيضاء والجزائر العاصمة زعزع ثقة الاستعمار بنفسه، إلا أن أهم ما حققته من نتائج تبقى ايمان نخبة هامة آنذاك من الشباب المغربي المتحمس بالمقاومة المسلحة كخيار امثل لمقاومة الاستعمار: ايمان سيترجم على أرض الواقع بالتحاق العديد منهم بصفوف المقاومة المسلحة، وسيبرهنون عن استعداد كبير للتضحية بكل شيء دفاعا عن الوطن·
اعتقال محمد منصور سيدفع بك الى مغادرة الدار البيضاء باتجاه تطوان، ماهي الظروف التي واكبت اعتقال صديقك ورفيقك في الكفاح، ومن ثمة لجوئك الى المنطقة الخليفية انذاك؟
بضواحي الرباط كانت لدينا ضيعة بواد ايكم نخفي فيها بعض المقاومين "المتورطين" اي الذين اصبحوا مكشوفين لدى السلطات الاستعمارية، وسيمر وقت دون ان تصلنا أخبار من هناك، فبدأنا نطرح التساؤلات حول مصير الاخوان هناك· وقررنا ارسال عبد الله الصنهاجي لاستطلاع الامر، لكن الذي وقع هو ان الصنهاجي لم يحصل على أية معلومة تفيدنا بمصير الاخوان المختبئين، حينها ذهبت عند الشهيد الزرقطوني وقلت له "هاذ الشي ما عاجبنيش لابد ان نستطلع الامر بأنفسنا"·
وافق الشهيد على اقتراحي، وبهذا توجهنا الى الرباط
على متن نفس السيارة "تراكسيون" ، نعم على متن تراكسيون التي كان يملكها المرحوم مولاي العربي الشتوكي، وكنت انا الذي أسوقها وكان الشهيد بجانبي، وكنا طوال الوقت نقلب الموضوع من مختلف الجوانب· في البداية قصدنا مسكن احد المقاومين المعلم حمو قرب المجزرة البلدية، فعلمنا انه اعتقل، فتوجهنا بعدها الى ضيعة واد ايكم، وبإجراء احتياطي، لم نتوجه الى الضيعة، بل اوقفنا السيارة قربها ونزلت من السيارة وفتحت "الكابو" كما لو اني كنت اصلح عطبا بالسيارة، وكنت ألقي بين الفينة والاخرى نظرة على باب الضيعة، فلمست حركة غير عادية هناك، اخبرت الشهيد الزرقطوني بمالاحظته وبتوجساتي، فقررنا العودة بسرعة الى الدار البيضاء·
هل كان منصور قد اعتقل بعد عودتكم؟
عندما عدنا توجهت مباشرة الى دكان منصور· فعلمت انه قد جرى اعتقاله اثناء غيابنا، وهكذا اتضحت لنا الصورة بالكامل· فقد أدى ا عتقال الاخوان بضيعة واد ايكم وبينهم الغندور الذي شارك في عملية "كولي بوسطو" الى اكتشاف امر منصور الذي اعتقل بعد ذلك· وهكذا ما ان علمت بالامر حتى ادركت انه لن يمر وقت طويل حتى ينهار منصور تحت التعذيب الوحشي الذي كانت تمارسه الشرطة في حق المقاومين· وبما انه الوحيد الذي كان يعلم بهويتي الحقيقية، فقد اصبحت مضطرا للاختفاء عن الانظار بأسرع وقت ممكن·
تقول انه الوحيد الذي كان يعرف بالضبط اسمك الحقيقي؟
نعم هو الوحيد، اننا كنا اصدقاء منذ عدة سنوات وقبل ان نلتحق بحزب ا لاستقلال ثم بالمقاومة المسلحة، وكما سبق ان ذكرت، فقد كانت تنظيماتنا محكمة لدرجة انه كان لكل واحد منا اسمه الحركي ورقم خاص به، فأنا مثلا كان انذاك اسمي الحركي هو "حمو" ورقمي هو 27 ،لكن من يكون حمو هذا بالضبط، لا أحد يعرف باستثناء منصور·
الزرقطوني لم يكن يعرف اسمك الحقيقي
كلا، لم يكن يعرف· بالنسبة اليه كنت "حمو" وهو بالنسبة لي كان "علال"، عندما احدثك الان عن اسماء المقاومين، من امثال عبد الله الصنهاجي وحسن صفي الدين وحسن العرايشي··· فهذه الأسماء لم تعرف إلا بعد مدة طويلة، لقد كانت تنظيماتنا محكمة، ولذلك تمكنت المقاومة من الصمود رغم الضربات القوية التي وجهت إليها·
ماذا فعلت بعد أن علمت باعتقال محمد منصور؟
بعد استطلاع الأجواء، علمت أن رجال الشرطة سألوا عني في دكان السجائر الذي سبق وحدثك عنه، والواقع في زنقة ستراسبورغ، عندها لبست "جلابية" واتصلت بالشهيد الزرقطوني، وعندما رآني ضحك وقال: "إذا لقد تورطت بدورك فأجبته" نعم، هاذ الشي اللي كاين" فقررنا أنه يجب أن أختفي عن الأنظار·
من الذي "تورط" أيضا معك وكان يجب أن يختفي بدوره؟
هذه الاعتقالات دقت أيضا ناقوس الخطرل "عبد الله الصنهاجي" الذي سيكون عليه أن يختفي بدوره، وسيرافقني بعدها الى الشمال· عندها لم يعد من الممكن البقاء في الدار البيضاء·
قبل ذلك اتخذتم جملة من الاحتياطات، من بينها نقل شحنة من الأسلحة كان محمد منصور على علم بمكان تواجدها·
بالفعل، كانت هناك شحنة من الأسلحة مخبأة في "عرصة لارميطاج" وكان محمد منصور يعرف بأمر تواجدها، ولذلك فقد كان من الضروري والمستعجل نقل هذه الشحنة الى مكان آخر، لذلك أسرعت أنا والزرقطوني الى مكان تواجد سيارة المرحوم "مولاي العربي الشتوكي"· في البداية لم نتمكن من إشعال محركها، فاضطررنا، أنا والشهيد الى دفعها لمسافة غير قصيرة، وبعدها ركبنا السيارة وتوجهنا الى مكان تواجد الأسلحة·
كم كانت كمية الأسلحة المخبأة في "عرصة لارميطاج"؟
العدد الأكبر منها كان عبارة عن قنابل، أما المسدسات فكان عددها قليلا· وكان من الضروري نقلها حتى لاتقع في يد السلطات الاستعمارية·
وكيف تمت عملية نقل الأسلحة؟
تمت بنجاح، لكن ماحدث لنا في طريق العودة أمر أغرب من الخيال
ما الذي حصل؟
في طريق العودة، فوجئنا بحاجز لرجال الدرك يفتش السيارات والشاحنات، ولا أخفي عليك أنني في الوهلة الأولى أدركت أننا وقعنا· التفت إلي الشهيد وسألته: ألم تحمل معك مسدسا أو اثنين لندافع عن أنفسنا؟ أجابني بالنفي، فالأسلحة كلها كانت في صندوق السيارة، فقلت له: يا إلهي، إن الأسو من الاعتقال هو أن يأخذونك مجانا "فابور"، لو كان معنا على الأقل مسدس فلن ندعهم يلقون علينا القبض إلا بعد إسقاط أكبر عدد ممكن منهم (يضحك) لكن بعد هنيهة سنفاجأ برجال الدرك يطلبون منا مواصلة الطريق دون أن تفتيش، ولم نتنفس الصعداء إلا بعد أن أصبحنا بعيدين عنهم، حينها أدركنا أن العناية الإلهية ترافقنا، وأننا مادمنا ندافع عن قضية عادلة فالله معنا· على كل وصلنا الى المكان الذي اتفقنا على وضع الأسلحة فيه، وهو منزل والد الحسين برادة، فتركنا الأسلحة هناك وأعدنا السيارة الى مكانها·
بعد ذلك اختفيت
نعم، أذكر أن من الأماكن التي اختفيت فيها، وكان ذلك رفقة عبد الله الصنهاجي، منزل يملكه صهر هذا الأخير، اختفينا في غرفة بسطح المنزل يقع في المدينة القديمة· كما كنا مرات نبيت انا والزرقطوني في الخلاء، قرب مكان الاذاعة بعين الشق· وعندما اشتد علينا الخناق، اصبح من الضروري ان أغادر الدار البيضاء فالأنباء التي كانت تصلنا، كانت تفيد بأن السلطات الاستعمارية قد جندت العديد من المخبرين ورجال الشرطة للبحث عني، بعد المعلومات التي تمكنت من جمعها حولي، لذلك اصبحت مقيدا وغير قادر على الحركة· فكان من الضروري ان اغادر الدار البيضاء لبعض الوقت· اذكر انني عندما اخبرت الشهيد محمد الزرقطوني بأني سأنتقل الى الشمال· بكى وقال لي: هل تتركني لوحدي، قلت له، ان وجودي هنا اصبح عبئا على حركة الفداء ولم يعد من الممكن ان ابقى في ظل هذه الاجواء، وعدته بأنني سأعود بعد ثلاثة اشهر· سأفي بوعدي، وسأعود فعلا بعد ثلاثة اشهر، لكن الزرقطوني كان قد استشهد رحمه الله·
كانت اذن لحظة الوداع آخر لقاء بينكما؟
نعم اخر لقاء، ودعني والدموع في عينيه، ولم أكن أعرف لحظتها انها المرة الأخيرة التي سأرى فيها هذا البطل الاستثنائي