نزار الفراوي
الضحك مع حسن الفد متدفق، متناسل، متعدد النكهات. ضحكة حين ترى وضحكة حين تفكر وضحكات أخرى لاحقة حين تتذكر. لأن السهولة البادية على الشاشة مضفورة بطبقات تتراص فيها العناصر التي تصنع المادة الفنية المستدامة القيمة وتميزها عن سواها من الوجبات السريعة الاستهلاك.
على قناته في اليوتوب يذيل حسن الفد حلقات سلسلته الجديدة بما يشبه بيانا توضيحيا: طوندونس" إرضاءً لطلب عشاق صنف الباروديا. نظرة متفكهة على محتوى الويب المغربي في 4 حلقات". لعله تحسب لنوع من سوء الفهم أو عطب في التلقي، لذلك بادر إلى إضاءة منطق اختيارات المادة الفكاهية المقترحة ورهاناتها. لولا أن الاستقطاب في الذوق سنة أزلية.
هو لا يجرب في "طوندونس"، بل يعود إلى ما برع فيه سلفا مع "الشانيلي تي في" و"الفد تي في" وغيرها من التجارب التي راكمها في مختلف صيغ الكوميديا. لأن التلفزيون يكاد يكون الساحة العمومية الأولى التي يجتمع فيها المغاربة، فقد حظيت طريقة تقديم المادة التلفزيونية من جهة وشخوصها وضيوفها وقضاياها من جهة أخرى بعنايته الفنية اللاقطة في سنوات سابقة. ولأن اليوتوب وحمى الفيديوهات المتسابقة على نسب المشاهدة بات ينازع التلفزيون صدارة المجال التداولي العمومي، فإنه ينبري في "طوندونس" إلى تشريحه بمشرطه الساخر، فتصبح الحلقات مرآة لما يفترض أنه مرآتنا، إعادة إنتاج مفكر فيها بتوابل الفكاهة والسخرية من الذات والموضوع.
إنها باروديا..محاكاة ساخرة لظواهر نعايشها، قريبة منا، تقمصا لشخوص نعرفها أو نكاد، أنتجها حمى التسابق على "البوز". ألذلك وجد البعض أن العمل الجديد ضحل ومن نوع déjà vu؟. لا مجال للمصادرة على الأذواق، والكوميديون الذين حققوا الإجماع عالميا ليسوا على قيد الحياة. بعد بضعة سنوات أطل خلالها الفد على الجمهور في صيغة سلاسل فكاهية رمضانية تنبني على الفكاهة الخاطفة وشديدة التركيز، وتنتظم في بناء درامي تتكشف فيه العلاقات وأبعاد الشخصيات، ربما يمكن تفهم هذا الانقسام الأولي الذي لمسناه في ردود الأفعال الاولية تجاه اقتراح مغاير الرهانات.
لنتذكر أن ردود الأفعال على "الكوبل" بعد مغادرة دنيا بوتازوت نجمة النسخة الأولى، كانت سلبية متحفظة في بدايتها. الفد رفع حينها تحديا خطرا. لقد أجاد في النسخة الأولى، وفي نظري، أجاد أكثر في ما تبعها، رغم غياب دنيا التي شكلت معه ثنائيا منسجما كان من الصعب حفر بديل له أو ابتداع عالم يجمع في نفس الآن بين استمرارية نفس العالم وتحقيق انعطافة جديدة في البناء وهندسة المواقف.
انتقل الفنان النبيه بفعل الفكاهة القائمة على الفعل ورد الفعل الثنائي، والمزدوج رجل/امرأة، وفي الوسط القروي، إلى صيغة ثنائية بديلة مع هيثم مفتاح في "كبور والحبيب" منفتحة على شخصيات ثانوية أخرى. سافر حسن بشخصيتيه إلى وسط مغاير، حضري. ولأنه فنان يطور نفسه ولا يركن إلى الناجز الذي كان ممكنا استثماره بكسل وانتهازية مواسم ممتدة، انبرى الفد في النسخة الثانية من "كبور والحبيب" إلى بناء فكاهة متعددة الشخوص في المجال القروي، مع انضمام زهور السليماني وأسامة رمزي وعبد القادر عيزون....وبغض النظر عن حنين المشاهدين إلى النسخة الأولى، فإني أميل إلى أن الكتابة موسما بعد آخر، ونسخة وراء أخرى، كانت تتقدم نحو مزيد من الدقة والإبداعية والثراء في المواقف والتوسع في دائرة توليد اللحظة الفكاهية، مقارنة بمواقف يسهل بناؤها نسبيا في المجال الصدامي التقليدي بين الزوج والزوجة (الكوبل 1).
اللافت في أعمال الفد أنه لا ينقاد لموهبته إلا بمقدار. يخضعها لصرامة الفعل الفني الواعي تشذيبا وجرعة وانسجاما بين عناصر عمل جماعي وإن هيمنت عليه شخصية الفد، تمثيلا وتأليفا وتأطيرا فنيا. ثمة كيمياء واضحة لصناعة الضحك عنده، يمكن تبين عناصرها بتتبع مساره الغني والمتنوع. يروم الاجتهاد في إصباغ المصداقية الفنية التي تتعايش مع المبالغات والانزياحات التي هي من صميم العمل الكوميدي، عينه على إسكان المشاهدة في خزينة الذاكرة التي تضمن تكرير الموقف وتجديد الاستمتاع به في مشاهدات لاحقة أو في تقاسم لذتها مع الأصدقاء مرات ومرات.
يحاور الفد الكاميرا بآلة الممثل: جسده. أداؤه الحركي والتعبيري يتلون بحسابات المسافة من الكاميرا وزاويتها. في اللقطة العامة، يستنفر كل أعضائه لرسم المشهد وصناعة الموقف وإعطاء الفرصة لتعبيرية الفضاء والملابس وحركة الجسد، وفي اللقطة المقربة يطوع نظرته وتقاسيم وجهه لينتزع البسمة قبل الحوار وبعده.
النجاح نسبي وضماناته منعدمة مهما بلغت الحرفية وترسخت الموهبة. ذلك لغز دائم يصاحب الخلق الفني منذ عصور. يعرفه الروائيون والشعراء والموسيقيون والرسامون وغيرهم. فلا أحد منهم تنبأ بنجاح أكيد أو فشل محقق. الثابت لدى فنان حقيقي واع بوضعه ووظيفته، هو احترام الجمهور، حتى وهو يحدد اختياره في الاشتغال على مجال اجتماعي شعبي، بدوي.
هامش تنازلات الفد الفنية يبدو ضيقا. هذا أمر أكدته تصريحات كل من عمل معه. هو لا يستكين إلى حيوية المادة الحوارية التي تربت عليها الذائقة التقليدية كمصدر للضحك. يجتهد لتقديم أكثر من مجرد مادة إذاعية مصورة، لأن المرئي ليس هو ما يصنع هوية المادة التلفزيونية. خصوبة الحوار والاشتغال الدقيق على اللغة والإحالات اللاذعة يتضافر مع ثراء مشهدي في صناعة الفضاء.
ديكور يستنسخ بإبداعية ادق التفاصيل التي تضيئ الخلفية الاجتماعية والنفسية للشخصيات، أكسسوارات وملابس منتقاة بعناية فائقة، بألوانها وصيحاتها، ماكياج احترافي يضع الممثل في جلد الشخصية. هذه العناصر ظلت بارزة في "طوندونس".
وهي عناصر تنزل أيضا في ميزان حسن الفد، لأنه أكثر من ممثل، مؤلف ومدير فني. يمتلك الفد شخصية المحور الجاذب الذي يغذي مشروعه بالوجوه والمواهب التي تدخل مدرسة حقيقية فتخرج بشهادة اسم متألق على طريق النجاح وبمسارات فنية مستقلة تعكس سخاء وانفتاح العقل المدبر. في تعقبه للكفاءة التمثيلية لا يأبه الفد باسم مرسخ. من كان في موقعه ليجرأ على إسناد بطولة على قدر الندية لممثلة شابة، موهوبة: مونية لمكيميل التي يبدو كأنها تثأر لسنوات من الظل والتألق الصامت على خشبة مسرح لا حظ له من الضوء، في وقت يتسابق المخرجون على طلب نجوم ونجمات المسابقات الغنائية وشبكات التواصل الاجتماعي.
لنتأمل في وقفة قصيرة قائمة المواهب التي تخرجت من مدرسة هذا الفنان. طارق البخاري، دنيا بوتازوت، طاليس، بديعة الصنهاجي، هيثم مفتاح، أسامة رمزي... حتى في تعامله مع ممثلين ذوي تجربة، لا يمكن إنكار أن الكتابة والإدارة الفنية تقدمهم في أدوار نوعية وفارقة. فمن كان له أن يلتفت الى ممثل كبير كان يعيش الهامش والفاقة قبل أن يفجر عطاءه في سلسلة "كبور والحبيب" (2)، عبد القادر عيزون، ناهيك عن تألق زهور السليماني بحيويتها وخفة دمها المعتادة.
عالم الفد فريد لأنه سليل شخصية متعددة المشارب رصينة التكوين عميقة النظر في جوهر العمل الفني وكيميائه واحتمالات تلقيه أيضا. وأظنه خالد الأثر، لأنه يحتمي بما هو جوهري، ويحترم القواعد الكونية للإبداع الساخر. الشاشة التي يوقعها حسن الفد ناطقة بمرجعيات الفنان التشكيلي، هو الذي تخرج في أول دفعة لأساتذة التربية الفنية، والموسيقي، عازف الساكس، المدرك لخطورة الإيقاع، وتعبيرية الصوت والصمت، والمثقف المطلع على اتجاهات الفنون والمتابع اليقظ لتطورات الشخصية المغربية في يومياتها وتطلعاتها، في أعطابها المضمرة والمعلنة. بل هو السارد المتمكن، كما تكشفه نصوصه التي يتقاسمها بين حين وآخر مع متابعيه على الفايسبوك.
لا ضير أن ينبثق الجدل كلما قفز الفد من ملعب لآخر، هو الممثل السينمائي المتميز في أدواره القليلة، والشاب الذي أنبأت بدايته في الدراما قبل سنوات طويلة بأسلوب في الأداء خارج قوالب الميكانيكا التشخيصية السائدة التي عطلت التفاعل الجماهيري مع أجيال من الفنانين، والفكاهي المتسيد للخشبة في عروضه الفردية.
سلطة المشاهدة حاضرة بالتأكيد، وجماهيرية الوسيط التلفزيوني لا يمكن تجاهلها. هنا مكمن المعادلة الصعبة. يتحرك الفد في الملعب الذي يستسهله الكثيرون ويطرقه محدودو الموهبة. بناء مادة كوميدية حول شخصيات بدوية أو هامشية أو تقمص شخصيات حقيقية أو شبه حقيقية ينتجها المجال العام ويتداولها الإعلام الكلاسيكي أو الجديد. لكن "نمطية" الموضوع لا تنال أبدا من إبداعية المقاربة وقوة العمل المستند الى تكامل العناصر.
يعرف الفد أن الجمهور رمل متحرك، وفكرة خطرة، لكنه يراهن على حنكته المكينة في اشباع حاجة الضحك الفوري المتدفق بقدر تجهيز نار هادئة لبسمة متأملة ومستدامة في ضفيرة ذكية وحاذقة من الكلمات والصور.