عاش العالم هذا الأسبوع على وقع واحدة من أشنع العمليات الإرهابية في السنوات الأخيرة، فرغم ما لمصر من تاريخ طويل مع الإرهاب، لأسباب سياسية مختلفة، إلا أن عملية العريش كانت فاجعة بكل المقاييس، وعملية استثنائية في بشاعتها ورقم الضحايا ومكان الاستهداف وزمانه، فالإرهابيون لم يراعوا حرمة للجمعة ولا لصلاتها ، ولا للمسجد ورواده من عموم الناس صغارا وكبارا، ولا لكونهم مسلمين على نفس دينهم، ولا لكونهم سنة يدينون بنفس المذهب، فحتى الطائفية المقيتة التي يؤمن بها هؤلاء المتطرفون لم تكن كافية لتعصم دماء تلك النفوس البريئة والأرواح البشرية المقدسة.
على أننا ونحن نترحم على ضحايا هذه المجزرة البشعة، لا بد أن نقف مرة أخرى دون كلل أو ملل، لنتساءل عن البنيات التي تحمل جينات هذا الفكر، وعن المسؤوليات التي يتحملها الفكر الديني السائد والمؤسسات الدينية المؤطرة والثقافة الدينية الرائجة بين الناس.
انتهى الزمن الذي كان تحميل المسؤولية فيه يقتصر على التنظيمات الإرهابية وأدبياتها ومقولاتها، بل تجاوزنا حتى زمن اتهام بعض حركات الإسلام السياسي بالمسؤولية المعنوية التي تتحملها بسبب إيديولوجياتها أو بعض أدبياتها عن الحاكمية والجهاد والجاهلية والمفاصلة.
ومع توالي هذه العمليات الإرهابية دون توقف، لا بد أن نتجاوز التناول التقليدي في التعامل مع الظاهرة، إلى مساءلة الثقافة الدينية السائدة ومعرفة دورها في إنتاج التطرف، فلا يخفى
ما تعرفه مجتمعاتنا من تعايش خطير مع التطرف، عقود من التمكين للتدين الوهابي جعلت اللاوعي الشعبي لا يتخذ موقفا حاسما من التطرف وإن كان يدعي استنكاره ومحاربته، لا زالت أحكامنا تجاه المضامين المتطرفة خجولة وضعيفة، لا يقع ذلك إلا بعد خراب مالطا كما جاء في المثل، تكتظ الشوارع بالمتظاهرين المنددين بالإرهاب، والحاملين لشعارات "ما تقيسش بلادي"، لكنك لا تجد نفس الحماس والحدة في التعامل مع صور التطرف التي نعرفها كل يوم.
يمكن للقطة إباحية أو مضمون جنسي يمر بالتلفزيون أو الإذاعة أو على موقع من المواقع أن يستنفر جيوشا من المستنكرين والغاضبين والمنددين، وأن يحرك عددا من الكتائب والجحافل لاستثارة عواطف الناس ودغدغة مشاعرهم، وأن يطلق حملة من التبليغات والشكايات على مواقع التواصل، لكن مرور المضامين المتطرفة، على مختلف وسائل الإعلام والتواصل لا يشكل أي إزعاج، ولا يثير أي استنكار، ولا يحرك أي ناشط أو مؤثر.
للأسف ثقافتنا الدينية لا زالت إلى اليوم أسيرة للمضامين المتطرفة، إطلالة سريعة على غالب القنوات الدينية المسموعة منها والمرئية، لتقف على سيل من الفتاوى الزاخرة بالإقصاء والتطرف والكراهية، المواقع الدينية ذات الحمولة المتطرفة تحتل المراكز الأولى على مواقع البحث وتحظى بأكبر عدد من الزيارات والمشاهدات، هذا واقع لا يمكن تجاوزه ولا دفن رؤوسنا في النعام مع انتشاره وتأثيره.
لا يمكن الحديث عن الثقافة الدينية السائدة دون أن نضع المؤسسات الدينية أمام مسؤوليتها التاريخية، فهي التي أنيط بها تأهيل المواطنين دينيا، وهي المشرفة على نشر ثقافة الاعتدال ومحاربة التطرف، وهي المرجعيات الدينية الكبرى في سياق دول وطنية حديثة، فعليها مهمة الدمج والتكييف بين الثابث والمتحول، والماضي والحاضر والمستقبل.
لكن واقع هذه المؤسسات اليوم يطرح أكثر من سؤال، رفض شيوخ الأزهر مثلا تكفير منفذي عملية العريش، بعد أن أعلنوا مرارا امتناعهم عن تكفير الدواعش، ليس هذا الموقف في نظري إلا تطبيعا مع الإرهاب وكثيرا من اللطف في التعامل مع الإرهابيين، وهو بالمناسبة ليس موقف الأزهر فقط، بل موقف غالب الحركات الإسلامية والشيوخ والدعاة الرسميين وغير الرسميين، فكلهم ينهلون من منظومة واحدة لا تعتبر القتل خروجا عن الدين ولا مروقا من الملة، بل غايته كبيرة من الكبائر التي يقع صاحبها بين أن يعذبه الله على فعله أو يغفر له، ولهذا لا يتردد كثير منهم في الحديث علانية عن أخوة داعش، وعن كونهم من الخوارج المسلمين، واعتبارهم من أهل البغي الذين يجب إيقاف بغيهم مع حفظ أخوتهم، وغير ذلك من العبارات اللطيفة والمؤدبة.
لست معنيا صراحة بتكفير داعش أو عدم تكفيرهم ، لأني ضد منح سلطة التكفير لأي أحد، وضد تكفير الدواعش وغير الدواعش، فالحكم بالإيمان أو عدمه مما ليس من اختصاص البشر ولا إمكانية لاطلاعهم عليه، فضلا عما يفتح هذا الباب من منافذ للتحريض والكراهية، بل وللقتل والتصفية.
لكن المشكل أكبر من ذلك كله، فحين تتعرض هذه المؤسسات نفسها للمفكرين والباحثين والناقدين، ممن خالفوا رأيها في قضية دينية، أو حتى اقتحموا بعض الطابوهات أو المواضيع المغلقة، أو هتكوا بعض المسلمات والثوابت الوضعية، أو تمردوا على بعض الموروثات والتقليديات الدينية، فتصدر في حقهم أحكام الكفر والردة، وتحرض عليهم القضاء للتفريق بينهم وبين أزواجهم، وتجري عليهم ما ذكره الفقهاء في أحكام المرتد، من إباحة الدم ومنع التوارث وعدم الدفن مع المسلمين ، وغيرها من الأحكام المعروفة، وتؤلب عليهم الشيوخ والعامة بدعوى عداوتهم للدين، مع أن هؤلاء جميعا، اتفقت معهم أو اختلفت، لم يهرقوا قطرة دم واحدة، ولم يحملوا في حياتهم إلا نوعا واحدا من السلاح، سلاح القلم والرأي، ومع ذلك استحقوا أحكام الكفر الردة والخيانة، فيما يمتنع عن ذلك في حق من أزهقوا دماء الناس في يوم مقدس ومكان مقدس.
هي أزمة عامة إذن، المناهج التربوية،المقررات الدراسية، الثقافة الدينية السائدة، الموروث الديني، كل ذلك يعج بكثير من فكر الإقصاء والتطرف، والمؤسسات الدينية عليها تحمل مسؤوليتها الكاملة في التغيير والتحول.
محاربة التطرف لا تكون فقط برفع شعارات الإسلام المعتدل والتنديد بالعمليات الإرهابية،حين تتحول قيم التعايش والتعدد والتسامح والحرية إلى ثقافة راسخة، إلى مسلمات بديهية في عقل الصغير والكبير، إلى بنية فكرية تستوعب الوعي والأسرة والمدرسة والإعلام، إلى سياسة استراتيجية تتبناها الدولة بكل مؤسساتها الدينية والمدنية، حينها يمكن الحديث عن محاربة التطرف.