تحدثت في الحلقة السابقة عن الظروف التي تلقيت فيها نبأ استشهاد محمد الزرقطوني، والاحاسيس التي انتابتك على إثر هذه الفاجعة· أنت الذي كنت من بين الذين قضوا مع الشهيد مدة غير قصيرة، تحدث لنا فيها عن الزرقطوني الانسان والمقاوم ورفيق السلاح·
الشهيد محمد الزرقطوني رغم أنه كان في مقتبل العمر، كان رجلا شجاعا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، شجاعته هذه، وانا كنت شاهدا على ذلك، وضعت على المحك في مناسبات عديدة· وثبتت انها شجاعة استثنائية· لكن هناك أيضا جانب آخر من شخصية الزرقطوني لم يسلط عليها الضوء· فرغم الدور الهام الذي كان يقوم به، كأحد قادة حركة المقاومة المسلحة، كان شديد التواضع، وقد قال لي غير مامرة، إننا نحن المقاومين لايجب ان نُعرف عندما نحصل على الاستقلال وان نبتعد عن الاضواء· كانت لديه قناعة بأن مانقوم به يدخل في نطاق الواجب النضالي الذي لايجب التبجح به· مازلت أذكر المرات العديدة التي كنت أقله عبر السيارة الى المدينة القديمة ليزور والده، وكيف كنت أنتظره الى أن يعود، كان قد أصبح ملاحقا من طرف أجهزة الاستعمار منذ مدة طويلة، لكنه كان يجيد التخفي·
وتمكن من تزوير بطاقة هوية، وله عدة أسماء يموه بها رجال البوليس الذين يتعقبوه، اما اسمه الحركي فكان "علال"، وكنت أنا أناديه "السي محمد"، عندما أصبحت ملاحقا بدوري، كثيرا ما كنت أقضي الليل في منزله، ورغم اشتداد الخناق على المقاومين، كان مرحا ويرفع من معنويات رفاقه· ذات ليلة، استضافني في منزله، وكان آنذاك يقطن في منزل متواضع بحي "اسباتة" لم يكن المنزل مزودا بالكهرباء، وكان رحمه الله يستعمل الشموع، زوجته الفاضلة أعدت لنا سلطة، ونظرا لصعوبة الرؤية على ضوء شمعة واحدة، لم ننتبه الا وأحد الصراصير يخرج من وسط الصحن، تركنا الاكل ونحن نضحك· كذلك أذكر أني مرات عديدة كنت أقضي معه الليالي، مختبئين في المناطق الخالية المحاذية لعين الشق، داخل الماسورات الكبيرة، وذلك بعد ان اشتد علينا الخناق، (يواصل بتأثر) لقد كان الشهيد أحد الركائز الاساسية التي يقف عليها تنظيم المقاومة المسلحة، كان بطلا جسورا، مثله مثل محمد منصور، الذي عندما ألقي عليه القبض لاقى من التعذيب ما لايستطيع بشرتحمله· كان الاثنان من طينة نادرة أجاد الله بهما على حركة الفداء ، الاول انتقل شهيدا الى جوار ربه والثاني أطال الله في عمره·
من خلال معرفتك عن قرب بالشهيد، هل كنت تحس بأنه لن يترك الشرطة الاستعمارية تلقي عليه القبض حيا؟
نعم، قال لي مرارا إنهم لن يلقوا عليه القبض إلا جثة هامدة، كنا نعرف انه إذا ألقي القبض على أحد منا، فإنه سيتكلم آجلا أم عاجلا· فالتعذيب الذي كان يمارس على المقاومين، كان شرسا ووحشيا· ومهما كانت طاقة الواحد منا، فإنه سينهار، لذلك وبعد أن تمكنا من الحصول على حبات السم، أصبحت لاتفارقنا، الشهيد الزرقطوني كان يعرف الكثير من أسرار المقاومة، وهو بطبعه لم يكن مستعدا ليقدم الى المستعمر هذه الهدية· ولذلك فعندما جاء رجال الشرطة لإلقاء القبض عليه، لم يتردد لحظة في تناول حبة السم، انا لم أفاجأ بهذا السلوك البطولي، لقد سمعت منه أكثر من مرة أنه إذا سقط، لن يفكر مرتين وسيفضل الاستشهاد على أن يبوح بمالديه من أسرار·
كيف تمكنت بعد معرفتك باستشهاد الزرقطوني من العودة الى الدار البيضاء واجتياز الحدود المصطنعة في عرباوة؟
توجهت في البداية الى العرائش· وهناك اتصلت بالمرحوم السي عبد العزيز الماسي، الذي عرفني بأحد المراسلين يدعى صالح· وكان هذا يشتغل في التهريب ويعرف مداخل ومخارج الحدود المصطنعة: وبالفعل تمكنا من اجتياز الحدود، وعندما وصلنا الى القنيطرة، ركبنا القطار باتجاه الدار البيضاء·
سبق لي ان رأيت صورة أخذت لك عندما عدت الى الدار البيضاء بعد استشهاد الزرقطوني، وتبدو فيها بالزي الذي يلبسه سكان المناطق السوسية·
نعم، كانت قد نبتت لي لحية صغيرة، وارتديت هذا الزي حتى لا أثير الانتباه· عند الوصول الى الدار البيضاء، كان همي اللقاء بأعضاء القيادة الجديدة للمقاومة، الذين ملؤوا الفراغ بعد الضربة الاولى التي تلقتها القيادة السابقة، باعتقال التهامي بنعمان ومنصور واستشهاد الزرقطوني واضطراري لمغادرة الدار البيضاء· وبما أني لم أكن أعرف الاخوة الذين تولوا زمام الامور معرفة شخصية، فقد كان الخيط الوحيد الذي سيصلني بهم هو المقاوم سعيد المانوزي، لذلك كان علي ان ألتقي به·
وهل تم ذلك؟
نعم، أسرع مما اعتقدت ، فبعد وصولي إلى محطة القطار، توجهت الى "مارشي كريو" وركبت كارو، وبعد مسافة قصيرة، رأيت سعيد المانوزي، راكبا دراجة، فناديت عليه، وكان عناقا حارا بيننا، حيث أنه لم يصدق كذلك ان يلتقيني في هذه الظروف الصعبة· على العموم اخبرته بمرادي، فقام بربط الاتصال بيني وبين القيادة الجديدة، وبدأنا نعد العدة للانتقام لروح الشهيد محمد الزرقطوني·
من الذين تولوا زمام الامور آنذاك على رأس المقاومة المسلحة؟
المرحوم الفقيه البصري، القادم من مراكش آنذاك، وكذلك عبد السلام الجبلي وحسن صفي الدين رحمه الله والحسين برادة، وهما من أوائل المؤسسين للحركة، تحملوا المسؤولية بعد الضربة التي تلقتها القيادة السابقة، وكذلك شنتر·
ما الذي قررتم القيام به كرد فعل على استشهاد الزرقطوني؟
اتفقنا في البداية على القيام بتفجير قنبلتين كبيرتين ، كل واحدة تزن 500 كلغ ، بشارع لاكار - شارع محمد الخامس حاليا - وكانت المقاومة قد تمكنت من اعدادها عبر استعمال حاويتين كبيرتين للأوكسجين، وكانت الخطة التي وضعناها تقضي بوضع القنبلة الاولى امام جريدة "لافيجي"· وقد تطوعت انا لحملها هناك ووضعها وإشعال الفتيل، وان ينقل مقاوم آخر القنبلة الثانية بمدخل الشارع وأن تنفجر هذه أولا، وبعد ان يحضر رجال الشرطة والاسعاف تنفجر تلك ، كنت سأضعها أنا لإحداث أكبر عدد من الضحايا·
ولماذا تخليتم عن تنفيذ هذه العملية؟
لم نتخل عنها، بل أجلناها · فبعد النقاش المطول ارتأينا ان يكون الرد الاول على استشهاد الزرقطوني، هو اغتيال أحد أبواق الاستعمار وركائزه وهو الدكتور "إيرو" مدير جريدة "لافيجي"· وفعلا نجحت هذه الخطة وتخلصنا منه وبعد ذلك، اعتقلت القيادة الجديدة، ولم يعد أحد يعرف أين كانت القنبلتان نظرا لفقدان التسلسل الذي من شأنه ان يقود إليهما، والى حدود الآن لا أحد يعرف أين هاتين القنبلتين·
من الذي نفذ عملية اغتيال الدكتور إيرو؟
اغتيال "إيرو" من أهم العمليات التي قمنا بها، وتتجلى أهميتها بالاساس، أنها كانت انتقاما لروح الشهيد محمد الزرقطوني، ورسالة الى الاستعمار، مفادها ان المقاومة المسلحة ورغم الضربات التي تلقتها ، قادرة على مواصلة الكفاح· وقد تكلف بتنفيذها كل من ادريس الحريزي وفردوس· وبعد ان أطلقا النار عليه· تمكن فردس من الهرب، لكن إدريس الحريزي ألقي عليه القبض وحكم عليه بالاعدام وأعدم بعد مدة قصيرة من صدور الحكم· كان لهذه العملية وقع كبير، واهتزت أركان الاستعمار الذي كان يحاول ان يوهم الرأي العام انه قضى على المقاومة، وكرد فعل سيتم استقدام مزيد من رجال الشرطة والقياد والمخازنية وتحولت الدار البيضاء الى سجن كبير، فقررنا ان نتوقف عن تنفيذ أية عملية، ومن هنا بدأ التفكير في ضرورة نقل المعركة الى خارج الدار البيضاء، والى خارج المدن بشكل عام ، كانت هذه هي المرحلة التي بدأنا نفكر خلالها في ضرورة إنشاء جيش التحرير، لتوسيع نطاق المعركة مع الاستعمار من جهة، ومن جهة أخرى لفك الخناق على المدن، وخصوصا الدار البيضاء، التي كانت تشكل المركز والثقل الرئيسي للكفاح ضد الاستعمار· وبعد تبادل الآراء، اتفقت القيادة على ان انتقل انا والمرحوم حسن صفي الدين الى الشمال والتنسيق مع الاخوة هناك من أجل انشاء جيش التحرير·