تعود قضية فلسطين مرة أخرى لتشعل نار الغضب داخل المجتمعات الإسلامية، قدر جيلنا والجيل الذي قبلنا وربما الذي بعدنا إلى ما شاء الله، أن نعيش تقلبات القضية، وأن نتابع أحداثها التي لا تتوقف ولا تنتهي، متابعة غير حيادية يطغى عليها عمق الانتماء وأثر الوجدان وإشكالات الهوية.
قدرنا التأثر بما يقع على تلك البقعة شئنا أم أبينا لعوامل دينية وإيديولوجية وجيو استراتيجية، تسللت القضية إلى كل البيوت فرحا وحزنا، افتخارا وانكسارا، خرجت الجموع الغاضبة بالملايين إلى الشوارع مرات ومرات دعما وانتصارا، التحفت الأعناق الكوفية الفلسطينية مرارا وتكرارا، وترددت الأهازيج والشعارات الحماسية والأناشيد التحريضية في الجامعات والمدارس والوقفات واللقاءات الحزبية والجمعوية، كانت فلسطين ولا زالت تغازل الوجدان، فيشتعل الحماس أحيانا بعد مجزرة أو هجوم حربي أو تصريح مستفز، ويخبو أخرى حيث ينشغل الناس بقضاياهم الداخلية وحياتهم اليومية.
هذه المرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أشعل زناد الموجات الغاضبة، تجاوز كل من سبقه من الرؤساء الأمريكيين، والذين مهما بلغ دعمهم للكيان الصهيوني، إلا أن واحدا منهم لم يجرؤ على الاعتراف رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل ، لكن ترامب فعل ذلك بحماس غير غريب على سياسته المتطرفة تجاه القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط، مما جعل البعض يعتبر هذا اليوم من أسوأ أيام القضية الفلسطينية، حتى جعله بعضهم كاليوم الذي أطلق فيه آرثر جيمس بلفور وعده المعروف ذات يوم من نوفمبر 1917.
ومع أن الفوارق بين اليومين كثيرة، لاختلاف السياق والملابسات التاريخية التي تحف بالحدثين، خاصة وأن قرار ترامب لا يعدو أن يكون خطوة رمزية، فأغلب مكاتب الدولة ومؤسساتها الهامة توجد بالقدس أصلا، إلا أنه لا يمكننا التهوين من شأن هذه الخطوة، ولا التقليل من بعاتها، فخروج الولايات المتحدة عن حيادها ولو كان شكليا فقط، إلى الدعم السياسي الكامل لطرف في النزاع، من شأنه تغيير التوازنات الدولية المتعلقة بالموضوع، ولا بد له من تطورات وتداعيات، أقلها تقديم مزيد من المبررات للقوى المتطرفة التي كانت ولا زالت تستثمر قضية فلسطين ومستجداتها لدغدغة العواطف وملاعبة المشاعر.
لكننا ونحن نعيش هذه الأجواء الملتهبة، وردات الفعل الواسعة سواء منها الرسمية أو الشعبية، لا ينبغي أن يصرفنا كل ذلك عن التفكير بروية وعقلانية، وطرح البدائل الواقعية، بعيدا عن الهيجان الجماهيري المفعم بكثير من الحماس والعاطفة، والذي أصبح مألوفا ومعتادا مع كل حدث متجدد بالمنطقة.
هي نفس الأساليب والطرق وإن دخلها التطوير لا تتغير ولا تتبدل، حملات واسعة من التنديد والشجب والاستنكار، مظاهرات تجوب العواصم والمدن الكبرى وإن خفت بريقها آخر السنوات، رفع للأيادي بالدعاء في المساجد والجمعات والاجتماعات الدينية والجلسات، ومع عصر التكنولوجيا ووسائل التواصل تطور الأمر لتغيير صورة البروفايل بصورة قبة الصخرة التي بناها الوليد بن عبد الملك الأموي وليس حتى بصورة المسجد الأقصى، مع تدوينات غاضبة ورسائل عاطفية، ثم ماذا بعد ذلك؟
لا شيء بعد ذلك، سينطفئ هذا الغضب، وسيخفت التفاعل، وسنعود إلى مشاغلنا اليومية، وسيبقى الوضع كما هو عليه، بل في كل هذه العقود السابقة، والتي سلكنا فيها كل وسائل الدعاء والاحتجاج، لم يتغير شيء، ولا حققنا أي شيء، بل لم يزد الأمر إلا سوءا، ولم نجن إلا سلاسل متتالية من الفشل والإحباط، واصطداما مؤلما بحائط الواقع على الأرض،
ما البديل إذن؟ ما الحل للخروج من هذا المأزق؟ إلى متى تستنزف القضية العواطف دون نتيجة تذكر؟
لا بد أولا في نظري النأي بالقضية عن الأدلجة، فقد كانت الصراعات الإيديولوجية أحد أهم العوامل التي أضعفت صوت المطالبين بحل عادل ومنصف لأصحاب الأرض، بل كم استنزفت الإيديولوجيا من الطاقات والأموال التي كان بإمكانها تأسيس قوة قادرة على المفاوضة وتحقيق المكاسب، وكم حولت اتجاه المعركة من قضية حقوقية تستقطب أكبر عدد من المتعاطفين إلى صراع ديني أو قومي يتردد الكثير في التعاطف معه ونصرته، دون أن ننسى طبعا ما يقع في كل الصفوف من استغلال سياسي ومادي لهذا البعد، وما ينتجه من معارك داخلية تطيل من أمد الصراع، مع ما تستنزفه من رصيد المقاومة والتحمل.
قضية فلسطين تحتاج لحلول واقعية وبراغماتية، وليس لحزمة من الأماني والتطلعات ، حين يؤسس الحل على أحلام وردية تحرر فيها كل فلسطين بين عشية وضحاها، وعلى الشجر الذي سيدل المسلم على اليهودي المختبىء خلفه، وعلى أخبار مستقبلية لا يعلم صحتها من بطلانها، فمن الطبيعي أن لا نجني إلا مزيدا من النكسات والضعف والهوان.
الواقع الذي تعيشه المنطقة غير الذي كانت تعيشه قبل سبعين سنة، ولا يمكن بأي حال تجاهل كل المتغيرات والتحولات في اقتراح أي حل ممكن للقضية، دولة إسرائيل اليوم على ضعف مواردها الطبيعية تحتل المراتب الأولى عالميا في مجالات التعليم والبحث العلمي، وتحقق أرقاما مذهلة على مستوى الصناعة العسكرية والتكنولوجية، ويسجل اقتصادها أرقاما مبهرة، دون الحديث عن الحقوق السياسية لمواطنيها وديمقراطية المؤسسات، في مقابل دول ضعيفة منهكة على كل المستويات، عاجزة عن فعل أي شيء إلا الدعاء وتغيير صورة البروفايل.
لا يمكننا رفع هذا الواقع اليوم، ولا يمكننا محوه بتدوينة حماسية أو دعاء خاشع، هي توازنات دولية وقوة مادية، تجري عليها كل سنن الكون، حتى وإن تعلق الأمر بمكان مقدس، فالسنن لا تحابي شخصا ولا زمانا ولا مكانا، والإنسان هو محور الحل، لا يمكن تحرير الأرض دون تحرير الإنسان، لا يمكن الحديث عن مواجهة وصراع سياسي وعسكري ، بشعوب لا زال فيها من لا يجد قوت يومه، بشعوب أنهكتها الأمية والبطالة وكل العلل الاجتماعية والاقتصادية، الحل إذن هو الواقعية، ونقل استراتيجية المعركة من تحرير الأرض إلى تحرير الشعب، والبحث من موقع القوة عن حل مرض لكل الأطراف، بعيدا عن اللافتات الإيديولوجية والشعارات الحالمة، حينها قد نتخلص من مسلسل النكسات وخيبات الأمل التي ما قد تخفت واحدة حتى تطفو أخرى.