صور: ياسين التومي
صباح الثامن من فبراير الجاري لن تنساه طنجة، ولا المغاربة سريعاً. فاجعة دخلت بدورها "نفق فتح تحقيق"، في طابور يطول الانتظار داخله، وكلمة سر فتح آخر ملفاته: هل كانت أسباب الموت في معمل طنجة غرقاً سريةَ أم علنيةً؟
28 شخصاً قضوا نحبهم، نساء ورجال خرجوا ذلك الصباح بحثا عن قوت العيش، ولم يعلموا أن قطرات المطر، التي تهاطلت، تحمل معها أكفانهم.
هل غياب شروط السلامة داخل ورشة النسيج وحده ما تسبب في الفاجعة؟ أم أن ظروفا أخرى كانت وراء ذلك؟ ما مدى احترام مالك ورشة النسيج لقوانين مدونة الشغل، خاصة تشغيل القاصرين؟ وما حدود مسؤولية القائمين على قطاع الشغل في مراقبة تطبيقها؟ لماذا كانت حصيلة الأرواح ثقيلة؟ هل "جريمة تشغيل معمل سري" مكتملة الأركان، كما وصفها بلاغ السلطات المحلية يوم وقوع الفاجعة؟ وهل يمس تحميل مسؤولية وقوع الفاجعة من أشروا على مشاريع للبنيات التحتية دون توقع انعكاسات تشييدها؟
"تيلكيل عربي" انتقل إلى مكان وقوع الفاجعة، واستمع، طيلة ثلاثة أيام، إلى روايات الناجين، وتصريحات مسؤولين ومهنيين في قطاع النسيج، وشهادات أسر من قضوا نحبهم غرقاً، كما عرض التفاصيل المحيطة بالواقعة على أهل الاختصاص، بحثا عن فك خيوط فاجعة تحولت إلى أحجية، أمام تدافع كل جهة من موقعها لاستصدار صك البراءة، والدفع بإمكانية محاسبتها.
"مسرح الجريمة"
في صباح يوم الثلاثاء، التاسع من فبراير الجاري، كانت سيارات الأمن والسلطات المحلية لا تزال ترابط أمام الفيلا الكائنة بحين "البرانص" بمدينة طنجة. أما في الالفيلات مجاورة لها، فكان القاطنون بها والعاملون يواصلون أشغال التخلص من مخلفات تسرب مياه الأمطار.
هنا، ليست ورشة النسيج المنكوبة وحدها تضررت، والحي ليس حكراً على قاطنيه من السكان، بل أحصى "تيلكيل عربي" مجموعة من الشركات وأوراش العمل المفتوحة ببناياته، ومنها ما تحمل لوحات كبيرة تشير إلى ممارسة نشاط تجاري أو صناعي.
هدير محركات ضخ المياه يملأ المكان ضجيجاً. ومع استمرار تساقط الأمطار بغزارة، كانت سواعد عمال الإنعاش الوطني لا تتوقف عن البحث عن منافذ للمياه، عساها تصرف، فلا تتجمع في برك.
عبد الرحيم الغطفاني، المسؤول طيلة سنة ونصف عن صيانة آلات الخياطة ومعدات ورشة النسيج المنكوبة، كان حاضراً لحظة وقوع الفاجعة، وأول الناجين منها. يقول في شهادته لـ"تيلكيل عربي": "حضرت الفاجعة من بدايتها، وأنا من أنقذت مالك الورشة من الموت".
ماذا وقع بالضبط قبل وقوع الفاجعة وحينها؟ يجيب الغطفاني: "كنا داخل ورشة النسيج، ولم نتوقع أن تتسبب الأمطار التي تهاطلت في الفاجعة. يمكن أن أصف ما وقع بأنه أشبه بالطوفان، وكأن سداً انهار لتغمر المياه، بقوة وبسرعة، الطابق تحت الأرضي الأول، ثم الثاني. المياه غمرت المكان في ظرف 60 ثانية، ولم نستطع مقاومتها. من نجوا منا خرجوا في الدقائق الأولى. كان تسرب المياه قوياً جداً، وتخيلوا أن مدها اقتلع آليات ومعدات ثقيلة جداً من مكانها، وقذف بها بعيداً في عمق الورشة".
المتحدث ذاته، صرح بأنه كان داخل ورشة النسيج 45 مستخدما ومستخدمة لحظة وقوع الفاجعة، واستبعد، حسب روايته، "أن يكون تماس كهربائي قد تسبب في وفيات".
لماذا؟ يجيب: "في اللحظة التي بدأت فيها المياه تتسرب، وتمس الآليات والمعدات، قمنا بقطع التيار الكهربائي على البناية".
في آخر الزقاق، حيث توجد ورشة النسيج المنكوبة، فيلا تملكها السيدة نجاة، سمحت لنا بولوجها، حيث عاين "تيكيل عربي" أبواباً اقتلعت من مكانها بسبب قوة مد المياه التي غمرت البناية. رفوف وأثاث المنزل تحولت إلى ركام فوق بعضها، وقبو الفيلا ممتلئ عن آخره بمياه الأمطار.
تقول السيدة نجاة، وهي تشير إلى حائط الطابق السفلي للفيلا: "وصل مستوى المياه إلى هنا، لقد بلغ قرابة المتر و60 سنتيمتراً، لم نشهد مثل هذه الواقعة من قبل".
المتحدثة ذاتها، وصفت ما وقع بـ"الكارثة"، وتحدثت عن أن جميع بنيات زقاق الحي تضررت بشكل كبير.
بدوره، يتحدث حرفي الزليج، مزيان محمد التازي، عن "عدم تسجيل أي واقعة مشابهة في المنطقة طيلة الفترة التي قطن خلالها الحي". ويضيف: "أقطن هنا منذ سنوات، وخلال العام 2005 تم افتتاح ورشة النسيج التي وقعت فيها الكارثة، كنت من المتدخلين لإنقاذ من حاصرتهم مياه الأمطار داخلها قبل وصول الوقاية المدنية".
ويؤكد مزيان محمد التازي، بدوره، أنه "تم التدخل في اللحظات الأولى لقطع التيار الكهربائي عن البناية حيث توجد فيها ورشة النسيج". والشيء نفسه تم في بنايات أخرى مجاورة، من بينها ورشة أخرى للنسيج توجد تحت بناية مسجد في زقاق قريب من مكان وقوع الكارثة.
"ضحايا الخبز المبلول"
من بين ما جعل لطنجة صيتاً، رواية "الخبز الحافي"، لابنها الأديب محمد شكري. ومن بين ما جعلها، صباح يوم الاثنين الـ8 فبراير الجاري، حديث العالم "ضحايا الخبز المبلول" بمياه أمطار أزهقت أرواح كانت تعيل أسراً، كلها تشتكي ضيق الحال وضنك العيش.
بزقاق شعبي على أطراف طنجة، حيث تقع منطقة "كزناية" المطلة على المنطقة الحرة، خرج موكب جنازة الشابة سكينة غليش، 23 سنة، في اتجاه مقبرة "سيدي قاسم". موكب رافقه أفراد عائلتها، ومن بينهم شقيقها الأكبر الذي كان غاضبا ورفض أي تغطية صحفية للجنازة، فضلا عن عدد من رجال السلطة، من بينهم قائد المنطقة وعدد من عناصر الدرك الملكي.
سكنية التحقت بورشة النسيج منذ سنوات بعدما غادرت حجرات الدراسة، وكانت، كما أغلب زملائهاً في العمل، تشتغل حسب حاجة "الباطرون" لليد العاملة. حاجة يتحكم فيها سوق العرض والطلب.
أمام بيت الراحلة، تصرح مجموعة من النساء من أفراد عائلتها بأنها "كانت تشتغل بأقل من الحد الأدنى للأجور، ولا تتوفر على التغطية الاجتماعية والصحية". وفي المقبرة يتحدث شقيقها عن رواية مغايرة بالقول: "دوك الناس ما شفنا منهم غير الخير، وأختي كانت تتوفر على حقوقها وأوراق عملها".
بعيدا عن منطقة "كزناية"، وسط حي بدوره على أطراف طنجة، ثلاثة ضحايا ينحدرون من هنا، من بينهم أسامة حميوي 25 سنة.
يقول شقيقه لـ"تيلكيل عربي" داخل بيت العائلة المكلومة: "توقف الراحل عن العمل خلال فترة الحجر الصحي بسبب (كورونا)، وعاد يوم الجمعة الماضي فقط (5 فبراير الجاري). فرح باتصال الشركة من أجل عودته إلى العمل، لأنه كان في حاجة إلى مورد رزق خلال هذه الفترة".
شهادة شقيق الراحل أوقفتها دموع شقيقته الكبرى، وعدد من أفراد العائلة الذين تحلقوا حول "تيلكيل عربي" عند نهاية درج المنزل. شقيقته رددت بنبرة تحسر على فقدانه: "أخي بدون ضمان اجتماعي، وراتبه أقل من الحد الأدنى للأجور، وحتى عندما أعادوه كان يعمل لساعات فقط في اليوم، حسب حاجة الشركة إليه". وتضيف: "كان التنقل إلى مقر العمل مضموناً، وهذا ما شجعه على العودة، رغم أن الأجر زهيد. ومع ذلك، فإنه كان يشتغل طيلة السنوات الخمس التي قضاها مع الشركة حسب طلب من يملكونها. وعندما توقفوا خلال فترة الحجر الصحي، لم يحصل على تعويض".
غير بعيد عن منزل الراحل أسامة حميوي، يوجد منزل شابة أخرى من ضحايا الفاجعة، رشيدة الحلوطي. وكانت تبلغ من العمر قيد حياتها 25 سنة.
يقول والدها، الطاعن في السن، داخل بيت العائلة الكائن بالطابق السفلي، ويداه ترتجفان: "رشيدة كانت تشتغل في السابق بمنطقة "مغوغة"، والتحقت بهذه الشركة قبل أشهر فقط، هي من تعيل الأسرة".
وتابع في شهادته: "الراحلة أخبرته بأن الشركة كانت تقتطع من أجرتها لتأدية واجبات الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية".
الملاحظ في تصريحات ضحايا الفاجعة أن جلهم من الشباب والشابات، ومنهم من التحقوا بالعمل في ورشة النسيج قبل بلوغ سن الرشد. ومن خلال الشهادات المستقاة من عائلات الضحايا تطرح، أيضا، فرضية دمج الشركة ما بين نمط العمل المهيكل مع بعض مستخدميها ونمط القطاع غير المهيكل مع البعض الآخر. فرضية سوف تحمل تصريحات استقاها "تيلكيل عربي" من مصادر أخرى ما يؤكدها أو ينفيها، في انتظار ما ستسفر عنه نتائج التحقيق القضائي والإداري.
"موت في السر أم العلن؟ !"
حسب معلومات موثوقة، حصل عليها "تيلكيل عربي"، فإن قبو الفيلا، حيث توجد ورشة النسيج، جُهز خلال العام 2005 من أجل الكراء والاستغلال في نشاط قطاع النسيج. وقبل المالك الحالي للورشة، تعاقب على استغلال القبو، بطابقيه، مستثمران في القطاع.
وتشير المعطيات ذاتها إلى أن مالك الورشة، وشريكه، اكتريا القبو بطابقيه شهر فبراير من العام 2017، وقاما بتصحيح إمضاء عقد الكراء لدى المصالح الإدارية على أساس الاستغلال الصناعي.
توفيق سحاسح، مستخدم ومسؤول سابق في ورشة النسيج المنكوبة، يصرح من أمام المصحة حيث يرقد أحد أصحاب الشركة، قائلا: "أنا اشتغلت مع مالك الشركة في ورشات أخرى منذ العام 2014، قبل أن ننتقل إلى هذه الورشة بداية العام 2017".
هل ورشة النسيج "سرية" كما صرحت السلطات المحلية بذلك؟ سؤال يجيب عنه سحاسح بالقول: "أنا، وطيلة فترة اشتغالي مع الشركة، كان مصرحا بي لدى الضمان الاجتماعي، والشيء نفسه بالنسبة إلى عدد من المستخدمين والمستخدمات في الشركة". ويشدد في تصريحه على أنه "لا يمكن وصف الشركة بالسرية في وقت استغلت، سابقا، من طرف شركتين، وهذا النشاط يمارس في المكان نفسه لأزيد من 15 سنة".
ويتابع توفيق سحاسح من منطلق أنه كان مسؤولا داخل الشركة، بأن الأخيرة: "كانت تؤدي مساهماتها لعدد من المستخدمين والمستخدمات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وتؤدي الضرائب، وتؤدي شهريا فاتورة الكهرباء التي لا تقل عن 10 آلاف درهم. يعني أن الربط الذي حصلت عليه لا يمكن أن يتم بدون توفر مجموعة من الوثائق الرسمية".
في هذا الجانب، بحث "تيلكيل عربي" عن الشروط التي تضعها الشركة المفوض لها تدبير قطاع خدمة الربط بالماء والكهرباء والصرف الصحي في مدينة طنجة، ووجد أنها تضع مجموعة من الشروط بالنسبة إلى الشركات الخاصة في حالة الأشخاص الذاتيين، ضمنها "طلب الاشتراك بإذن من المالك إذا كان صاحب الشركة مكترياً، وشهادة الملكية أو عقد بيع، ونسخة من بطاقة التعريف، وتوكيل رسمي في حالة غياب المالك"، وهذا في ما يخص وجود إيصال.
أما إذا لم يتوفر الإيصال بالنسبة إلى الشركات الخاصة في حالة الأشخاص الذاتيين، فإن شركة التدبير المفوض تفرض شرطا إضافيا، وهو: "رخصة العيش أو شهادة إدارية (اشتراك الكهرباء)".
ودائما بالنسبة إلى الشركات الخاصة في حالة الأشخاص الاعتباريين، فمن بين ما تفرضه شركة التدبير المفوض: "النظام الأساسي والسجل التجاري للشركة"، سواء تعلق الأمر بالاشتراك النهائي أو المؤقت.
وبالعودة إلى تصريحات المسؤول السابق في الشركة، وبعد ما طرح أمامه "تيلكيل عربي" تصريحات عائلات تتحدث عن غياب تصريح ذويها من الراحلين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أقر بذلك، بالقول: "نعم، وبحكم أنني كنت مسؤولا في الشركة، لا يمكن أن أنفي وجود مستخدمين غير مصرح بهم في الصندوق"، وربط ذلك بـ"رغبة عدد منهم بعدم الاقتطاع من أجورهم"، على حد قوله.
بدوره يصرح عبد الرحيم الغطفاني، المسؤول عن صيانة آلات الخياطة ومعدات ورشة النسيج المنكوبة، بأنه "كان من بين المصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي".
ويرفض الغطفاني وصف ورشة النسيج المنكوبة بـ"السرية"، ويتساءل في هذا الصدد: "كيف يمكن وصفها بالسرية وهي تتوفر على حافلات للنقل؟ لماذا توصف بالسرية ومن يشتغلون فيها يخرجون كل منتصف نهار لتناول وجبة الغذاء أمامها، وظاهر عليهم أنهم يعملون فيها؟ لا يمكن وصفها بالسرية ومن يشتغلون فيها يخرجون يوميا وفق ساعات عمل مضبوطة ومعروفة واعتيادية".
بل يكشف المتحدث ذاته، أنه "استفاد رفقة مستخدمين آخرين، بمقر الشركة نفسه، من تعويضات الصندوق والوطني للضمان الاجتماعي خلال فترة الحجر الصحي". ويصرح في السياق ذاته: "استفدنا من مبلغ 1000 درهم خلال الشهر الأول؛ أي مارس، بعد التوقف عن العمل، ثم مبلغ 2000 درهم عن الشهور التي تلته، ونتوصل بتعويضات عن الأبناء على رأس كل شهر من الصندوق".
وأمام ما يروج حول انخراط ورشة النسيج المنكوبة في حملة إنتاج الكمامات المدعومة من طرف الدولة، طرح "تيلكيل عربي" السؤال على المسؤول عن صيانة آلات الخياطة ومعدات، وكان جوبه بتردد كبير: "لم نصنع كميات كبيرة منها".
ياسين العرود، عضو غرفة التجارة والصناعة بطنجة، ونائب رئيس الهيئة الاستشارية مع الفاعلين الاقتصاديين بجهة طنجة – تطوان - الحسيمة، يرفض بدوره، في تصريحه لـ"تيلكيل عربي"، وصف ورشة النسيج المنكوبة بـ"السرية".
ويعود بالحديث إلى نوعية عقد الاشتراك للربط بالكهرباء الذي تتوفر عليه الشركة، بالقول: "كيف يمكن ربط بناية بعداد بجهد 30 أمبير ثم نصفها بالسرية؟ هذا الربط يتطلب الحصول على تراخيص محددة من طرف الشركة لتوافق على هذا النوع من الربط".
ويقدم المسؤول، الذي يعمل بدوره في مجال النسيج، مجموعة من المعطيات من قبيل أنه "في مدينة طنجة وحدها توجد ما بين 30 إلى 40 شركة تشتغل في قطاع النسيج بنفس الطريقة".
وعن احترام مالك الشركة لالتزاماته القانونية والاجتماعية، يصرح المتحدث ذاته، بأنه حسب ما اطلع عليه من وثائق، وتتبعه لنشاط الشركة، "فإن الأخيرة تؤدي الضرائب، وتسدد مجموعة من المساهمات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وتوفر مجموعة من الطلبيات الداخلية بموجب فواتير موثقة لدى المحاسب".
قريبا من مكان وقوع الفاجعة، وغير بعيد عن ورشة النسيج المنكوبة، يقف محمد بولعايش، مالك ورشة للنسيج بالمنطقة نفسها، وهي الموجودة تحت بناية مسجد الحي.
بنبرة غاضبة جداً، وبصوت مرتفع، وعلى مرأى ومسمع مجموعة من رجال السلطة الذين يرابطون قرب مكان وقوع الفاجعة، يصيح محمد بولعايش: "لماذا تقولون سرية، أين هي السرية ونحن نشتغل في واضحة النهار؟".
الفاعل في قطاع النسيج يرى، من وجهة نظره، أن نشاطهم قانوني مائة في المائة. ويقول:"نحن نتوفر على رخص، لدينا ربط بالكهرباء على أساس جهد مرتفع، نؤدي الضرائب، ونؤدي الالتزامات الاجتماعية".
بالنسبة إلى محمد بولعايش فإن "سبب الفاجعة هو الطريق الجديدة التي شيدت مع النفق"، وتلك فرضية أخرى سيعود إليها "تيلكيل عربي" بالتفصيل.
وأمام التصريحات والروايات المتضاربة بشأن مدى "قانونية نشاط الشركة" التي تستغل قبو فيلا من طابقين، يبدو أن هناك تداخلاً ما بين المهيكل وغير المهيكل، وذلك ما يفصل فيه الأستاذ الجامعي في القانون الاجتماعي محمد طارق.
المسؤولية القانونية لوجود الشركة بالقبو
يوضح الأستاذ الجامعي في القانون الاجتماعي، محمد طارق، في تصريح لـ"تيلكيل عربي" حول فاجعة طنجة، أن "وزارة الشغل والإدماج المهني، عبر مفتشية الشغل، لا تتوفر على ولوج لقاعدة بيانات المحكمة التجارية، لمعرفة الشركات التي أنشئت من أجل مراقبتها". ويتابع بشأن ورشة النسيج في طنجة، أن "الشركة إذا لم تكن بادية للعيان، يصعب مراقبتها من طرف جهاز الشغل".
وفي ما يتعلق بمصير الضحايا الذين خلفتهم الفاجعة، يقول المتحدث ذاته إن "المصرح بهم، بموجب عقد التأمين، يجب أن يلجأوا إلى الدعوى العمومية، وتعويضهم تؤطره قوانين حوادث الشغل والعقد مع شركة التأمين"
لكن هنا يطرح تساؤل حول عدم توفر مجموعة منهم على عقد عمل، وغير مصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أو شركة التأمين. في هذه الحالة يؤكد الأستاذ الجامعي محمد طارق أن "عقد الشغل ليس سندا لتأكيد العلاقة بين المشتغل والمشغل، لأن القانون لا يفرض كتابته. وبخصوص التعويض، ننتقل إلى سلك مسطرة الدعوى الشخصية على المشغل، لأنه يتحمل المسؤولية المدنية والجنائية".
ويرفض الأستاذ الجامعي في القانون الاجتماعي الحديث عن وصف "ورشة نسيج سرية"، ويربط موقفه بالقول: "بمنطق السلطات المحلية لا شيء سري في المغرب، ونشاط في قطاع النسيج لا يمكن إخفاؤه، لأنه يحتكم إلى حركة تجارية وصناعية ملاحظة، وخاضع أيضا لطلبيات داخلية وخارجية يتم التصريح بها، وإن كان الإنتاج يمر في جله عبر القطاع غير المهيكل، فإن هذا النشاط معروف لدى الجميع".
وبخصوص تشغيل القاصرين داخل ورشة النسيج المنكوبة، حسب ما صرحت به مجموعة من عائلاتهم بذلك، يفصل الأستاذ الجامعي محمد طارق في ذلك، بالإشارة إلى أن "قانون سن التشغيل غير مرتبط بسن الرشد. مدونة الشغل أعطت استثناءات، ويمكن تشغيل اليافعين من 15 سنة فما فوق، وهذا التشغيل قانوني في المغرب".
قبل أن يعود في توضيحه إلى التأكيد على أنه "يجب تشغيل من هم في الـ15 من عمرهم وما فوق، وفق ضوابط تراعي سنهم، من بينها ألا تؤثر ظروف عملهم على نموهم، وأن يستفيدوا من امتيازات قانونية، وعطل وساعات عمل تناسب سنهم، ويمنع تشغيلهم في الليل".
ويخلص المتحدث ذاته، في تصريحه لـ"تيلكيل عربي"، إلى أنه يمكن "وصف ورشة النسيج بالعشوائية، لأنها، ومن خلال المعطيات الأولية، ينعدم فيها ضمان حقوق الراشدين، فما بالك بالقاصرين".
نفق في قفص الاتهام
خلال استماع "تيلكيل عربي" لشهادات وتصريحات من يقطون بالحي حيث وقعت فاجعة طنجة بورشة النسيج، جاء على لسانهم جميعاً أن "النفق الذي شيد على الطريق الرئيسية المقابلة للحي، تسبب في الفاجعة".
وبحسبهم، فإن "تشييد النفق، فرض تشييد سور مرتفع من الإسمنت يفصل الحي عن المساحة الخضراء الموجودة على طول شريط الطريق الرئيسية، وهذا السور يجعل مياه الأمطار تجتمع، ويرتفع علوها عند اختناق مجاري تصريفها".
"تيلكيل عربي" طرح هذه الفرضية على رئيس لجنة التعمير وإعداد التراب والمحافظة على البيئة بمجلس جماعة طنجة، أحمد الطلحي، الذي قدم مجموعة من التوضيحات بهذه الشأن.
ويقول المسؤول: "أولا يجب أن نعرف أن الترخيص بالبناء في تلك المنطقة كان خلال فترة انتمائها إلى الجماعة القروية (العوامة)، قبل أن تلتحق بنظام وحدة المدينة، والفيلا حيث توجد ورشة النسيج التي وقعت فيها الكارثة، رخص ببنائها عام 1996، لكن بشرط عدم تشييد دور تحت أرضي؛ أي قبو".
ويشدد المتحدث ذاته على أن "مجموعة من المناطق في طنجة يمنع فيها بشكل مطلق بناء قبو، لأن المدينة مخترقة من طرف خمسة أودية تشكل خطراً دائماً عليها، إذا ما كانت التساقطات المطرية فوق مستوى الـ30 ميليمترا، وذلك ما وقع خلال يوم الاثنين الماضي".
ويفسر رئيس لجنة التعمير وإعداد التراب والمحافظة على البيئة بمجلس جماعة طنجة كل هذا بالقول: "طنجة ومن منطلقات عملية وإحصائية، كما أقولها دائما، تخترقها شبكة من الأودية والشعاب، ومجموعة من التجمعات السكنية بعد فترة الاستعمار شيدت فوق مناطق رطبة، وهذا هو أصلها".
ويضيف في الصدد نفسه: "إذا لاحظتم البنايات القديمة شيدت فوق هضبات. ومع الإقلاع الصناعي الذي شهدته المدينة، وتوالي سنوات الجفاف من فترة إلى أخرى، تم الترخيص بتشييد تجمعات سكنية يمكن إدخالها في خانة البنايات العشوائية، وإن كانت فيلات أو عمارات شاهقة. وما يزيد من خطورة الوضع، هو أن طبيعة التربة في طنجة غير نافدة، وبسرعة تتجمع المياه، لتشكل أودية موجودة أصلا، كما قلت في السابق، وتعود إلى مجراها مع قوة الزخات المطرية".
ويكشف المسؤول المطلع على ملفات إعداد التراب والمحافظة على البيئة بمجلس جماعة طنجة، أن المنطقة حيث وقعت الفاجعة "يخترقها واد السواني، وهو ممتد على طول الشارع الرئيسي حيث شيدت الأنفاق تحت الأرضية المؤدية إلى الطريق السيار نحو الرباط، وصولا إلى حيث تتركز المراكز التجارية".
ويتابع: "بعد الفيضانات التي شهدتها المدينة عام 2008، وضع مشروع للتهيئة كلفته أكثر من مليار درهم، وكان أساسه استدراك تشييد التجمعات السكنية في مجرى مجموعة من الأودية وفوق مناطق رطبة، وتم بالفعل وضع قنوات ضخمة للصرف تتحمل تساقطات مطرية مقياسها 30 ميليمتراً. لكن إذا فاق المقياس هذا المعدل، سوف نتابع دائما عودة مجموعة من الأودية إلى مجراها الطبيعي. وكما قلت في السابق هناك خمسة منها، ثلاثة خطيرة على المدينة، لأنها تخترق أحياءها ومصبها البحر الأبيض المتوسط، واثنان خارج المدار الحضري".
ويفسر رئيس لجنة التعمير وإعداد التراب والمحافظة على البيئة بمجلس جماعة طنجة، أحمد الطلحي، السبب وراء إنشاء الشريط الأخضر الكبير، الممتد على طول الطريق الرئيسية حيث شيدت الأنفاق، بـ"تدارك ما اقترف في السابق من ترخيص ببناء تجمعات سكنية على مجرى الأودية، ومنع أي محاولة مستقبلا لتغيير هذا الوضع".
وبالعودة إلى الحي حيث وقعت الفاجعة وربط ساكنته والمهنيين، الذين يستغلون بنايته لممارسة أنشطة صناعية وتجارية، لما وقع بتشييد النفق تحت الأرضي، الذي انتهت أشغاله عام 2018، يشدد المتحدث ذاته على أن "هذه الفرضية تبقى قائمة ولا يمكن استبعادها، لكن التحقيق وحده كفيل بتحديد المسؤوليات، والحل الآن أمامنا هو إعادة الإسراع بوضع بنيات تحتية قادرة على استيعاب تساقطات مطرية يفوق مقياسها الـ30 ميليمتراً، وفرض معالجة مشكل تشييد الطابق تحت الأرضي في مجموعة من مناطق طنجة، ومنع أي ترخيص مستقبلا في أماكن مهددة بالفيضانات".
كي لا تتكرر الفاجعة
خلال المجلس الوزاري الأخير، وجه الملك محمد السادس سؤالا إلى وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، حول الحادث المأساوي الذي وقع مؤخرا بمعمل بطنجة، والتدابير التي تم اتخاذها لتفادي تكرار مثل هذا الحادث.
جواب الوزير جاء فيه أنه: "موازاة مع التحقيقات الجارية، تم وضع تصور أولي بهذا الخصوص، وأن العمل مستمر في هذا الشأن". وبعد جواب وزر الداخلية خاطبه الملك: "بضرورة العمل بين مختلف القطاعات المعنية، والتنزيل السريع والجاد لهذا التصور، وكذا اتخاذ جميع التدابير القانونية والتنظيمية والتدبيرية اللازمة، وعلى مستوى كافة التراب الوطني، لتجنب وقوع مثل هذه الحوادث المؤلمة".
وأمام التوجيهات الملكية بتنزيل تدابير لعدم تكرار الفاجعة، ووعود الوزير بوضع تصور أولي بهذا الخصوص بالموازاة مع التحقيقات الجارية، يعول المغاربة على أن تجيب الأخيرة عن كافة الفرضيات المطروحة بخصوص أسباب وقوع الفاجعة، وأن تجد نتائجه الطريق لقرع باب كل مسؤول عن وقوعها، بداية بما وقع داخل الباب المغلق لورشة النسيج المنكوبة، ووصولا إلى آخر الطريق الرئيسية المؤدية نحو العاصمة الرباط.