بمناسبة ما يقع بالقدس الشريف، تذكرت حوارا سابقا جرى بيني وبين أحد الزعماء السياسيين المغاربة، وكان قد عاد لتوه من زيارة للقدس ورام الله، فسألته إن كان لا يرى مانعا من زيارة المسجد الأقصى وهو تحت السيادة الإسرائيلية، وإن كان لا يعتبر ذلك من التطبيع، خاصة وأن حزبه السياسي ممن يرفع شعارات تجريم التطبيع، فما كان منه إلا أن قدم لي جوابا اعتبرته بالغ الذكاء، حين أحالني على سنوات السجن وزيارة الأهل والأقارب التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر، وكانت تشكل لي متنفسا مهما وسط محنة ومعاناة البعد والفراق، قال لي بلهجة المنتصر بحجته ومنطقه: أكنت ترفض زيارة أهلك لك بحجة أن ذلك لا يمكن إلا برخصة من السجان؟ وهل كنت ترى ذلك تطبيعا مع ما كنت تعيشه من ظلم وما قاسيته من معاناة؟.
كان جواب السياسي حكيما في نظري، جعلني أعيد النظر في قضية طالما اعتبرت عند من نشأ في أحضان الإسلاميين من المسلمات التي لا يقبل حتى طرحها للنقاش، حتى كدنا نعتقد أن حرمة زيارة القدس والأقصى مما قد نص عليه القرآن أو تواترت به السنة والعمل، ونسينا أو تناسينا بحكم الزخم الذي تسوق به الفتوى أنها ليست إلا اجتهادا معاصرا أقرب ما يكون للسياسة من الدين، وإن ارتدى كالعادة لباس الفتوى والفقه والشريعة.
العجيب في الموضوع، هو أن احتلال القدس ليس بأمر حادث ولا جديد في التاريخ الإسلامي، بل منذ القرن الخامس الهجري والقدس تتعرض للاحتلال من طرف قوات مختلفة، وليس بين أيدينا في التراث أي فتوى أو حكم ديني يمنع من زيارة القدس أو يحرم الصلاة بالمسجد الأقصى، بحجة الاحتلال والعدوان، بل لم تكن القضية موضع نزاع ولا نقاش بين الفقهاء، على ما كان لديهم من إسهال في مناقشة القضايا حتى ما كان منها مفترضا، بل على العكس من ذلك، يحكي لنا التاريخ عن رحلات بعض الأسماء المشهورة نحو القدس وهي تحت غير المسلمين، كما هو حال الفقيه المعروف أبي حامد الغزالي وأبي المظفر السمعاني فقيه الشافعية في زمانه، وقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أنه تحيل من أجل ذلك وخاطر بنفسه، بل ذكر الصفدي في تاريخه أن سعيد بن سهل المشهور بالفلكي زار القدس بعد أن أخذ له نور الدين زنكي الإذن من الإفرنج.
في كل هذا دليل واضح على أن الحكم الذي شاع بين المعاصرين من التحريم والتجريم، ليس إلا اجتهادا سياسيا فقهيا ارتبط بإيديولوجية من صدر عنه، وربما ارتبط أيضا بالظروف السياسية التي أدت إلى الإصدار، مما يجعلنا اليوم مطالبين بمراجعة الأمر، والنظر إليه من عدة زوايا، بعيدا عن العاطفة والحماس، وإلقاء الأحكام الجاهزة، المنبعثة غالبا عن إيديولوجيا لا تتقبل الرأي المخالف وتعودت على رميه بكل نقيصة وعظيمة.
بعيدا عن جدال الفقهاء في المسألة، وعما إذا انبنت فتوى التحريم على مصلحة اختلف في كونها مرسلة أم غير مرسلة، وحتى بعيدا عن استدلال بعض المجيزين بفعل النبي عليه السلام مع أصحابه حين قصد مكة حتى قبل المصالحة وهي تحت يد أعدائه، لاختلاف السياقات التاريخية والموضوعاتية، فإننا اليوم أمام واقع يعاني فيه أهل بيت المقدس من عزلة تتفاقم يوما بعد يوم، فمدينة القدس باتت اليوم أكثر عزلة عن محيطها الفلسطيني، مع تشديد إجراءات الحصار والإغلاق المفروضة على معابر المدينة، ومع سياسة مصادرة الأراضي وتوسيع الاستيطان، وتسريع حركة المستوطنين وتشجيعهم على السكن بالقدس، ناهيك عن ممارسات الاحتلال اجتماعيا واقتصاديا لإحكام السيطرة كليا على المدينة، وعمليات تهجير الفلسطينيين خارج القدس، وطردهم خارجها، مراعاة للمتطلبات الأمنية والديموغرافية والاقتصادية لتثبيت احتلال المدينة والهيمنة عليها، في إطار إجراءات التهويد والتطهير العرقي الذي يمارسه الاحتلال.
ولا يمكن هنا إلا التذكير بما أحدثه جدار الفصل من تغييرات جوهرية مست حياة الفلسطينيين، وما شكله من عائق بين أطراف المدينة، وعزله لآلاف السكان عن الضفة الغربية، وتقطيع أوصال عدد من الأحياء وتوزيعها، وحرمان الآلاف من الوصول إلى المستشفيات والمدارس وأماكن العمل، والصلاة بالمسجد الأقصى، فضلا عما تسبب به من قطع الصلات بين الأسر والعائلات وتشتيتها.
أبعد كل هذه المعاناة التي يعيشها المقدسيون، وهذه العزلة التي يكتوون بنارها، نضيف٠ لذلك قطع العلائق والصلات، وحرمانهم من موارد اقتصادية مهمة؟.
فالزائر للقدس سيأكل بمطاعم المقدسيين، وسينزل بفنادقهم، وسيقتني الهدايا من متاجرهم، وسيروج لمنتوجاتهم، فضلا على صلة رحمه بهم، وتقوية عزائمهم، وتشجيعهم على الصمود.
الزائر للقدس سيصلي بالمسجد الأقصى، وسيقوم بعمارته والاحتفاء به، وسيثبت حق المسلمين في أداء الشعائر به كأحد المساجد المقدسة، وسيؤكد للعالمين أنه باق في الذاكرة والوجدان لا يزول ولا ينمحي.
فكل هذه مصالح غالبة وراجحة بتعبر الأصوليين، لكن بالمقابل : أي مصلحة قد جنيت منذ صدور فتاوى التحريم إلى اليوم؟ وأي مكاسب قد تحققت ومئات ملايين المسلمين يقاطعون القدس والمسجد الأقصى؟ لم يزد الأمر إلا سوءا، اشتدت العزلة على أبناء القدس، وتدهورت أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وتضاعف حجم المستوطنات، وصارت الإجراءات أكثر تشددا، وأخيرا اعترفت الولايات المتحدة القوة الكبرى في العالم بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل.
هذا المنطق في التعامل مع زيارة القدس، ليس نابعا عن انهزامية في الشعور، أو خنوع وجبن في الموقف، كما يصور ذلك بعض هواة العنتريات والشعارات الحالمة، لكنه طرح يحاول بناء موقفه على كثير من الواقعية والبراجماتية التي لا بد منها، وأكثر من ذلك، هو خلاف محترم بين وجهات نظر في تقدير المصالح واعتبارها، فلا يسعنا إلا فتح صدورنا لهذا النقاش، بعيدا عن لغة التخوين والقدح والطعن في النيات.