انخرط الناقد والروائي صدوق نور الدين في الكتابة الأدبية منذ أواسط السبعينيات، حيث نشر بداياته الأولى في الصفحات الثقافية للجرائد الوطنية. وأما لاحقا، فانتقل للكتابة في المجلات العربية، وبالأخص العراقية والسورية واللبنانية.
نشر كتابه الأول "حدود النص الأدبي" (1984) بدار الثقافة (الدار البيضاء). وإلى اليوم، نيفت مؤلفاته على الثلاثين كتابا. على أننا في هذا الحوار، سنركز على كتابه الأخير "اكتمال الدائرة" الذي خص به الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم، تأسيسا مما اعتبره ثلاثية متكاملة المعنى والمبنى، وتتمثل في الروايات التالية: "67"، و"برلين 1969"، و"1970".
التركيز على صنع الله إبراهيم
*لماذا بالتحديد صنع الله إبراهيم؟ ولماذا اشتغلت في كتابك الأخير حول أعماله التي تحمل عناوينها أرقاما؟
تشترط الكتابة كفعل، ممارسة آلية القراءة. من ثم، فإن لا كتابة تتحقق في غياب القراءة. ومن هنا بالتحديد، نشأت العلاقة وإبداعات صنع الله إبراهيم، محمد زفزاف، عبد الله العروي، حيدر حيدر، إلياس فركوح. بمعنى آخر، أن الاهتمام لم يقتصر على صنع الله فقط، وإنما شمل غيره وفق الممكنات التي تتيحها القراءة.
لقد تولدت العلاقة النقدية ونصوص صنع الله إبراهيم الروائية، منذ نشره لرواية "بيروت.. بيروت"؛ حيث أنجزت عنها دراسة مطولة لم تنشر إلى اليوم. وأما على مستوى القراءة العادية، فتعرفت على بداياته انطلاقا من روايته "تلك الرائحة" (1966)، و"نجمة أغسطس"، على أن كتاب "اكتمال الدائرة" يعود في الحقيقة لمتابعاتي الدقيقة لمنجز الرواية العربية ككل، حيث لاحظت بأن الروائي الكبير صنع الله إبراهيم قد أقدم على توسيع دائرة آثاره الإبداعية، بإصداره نصوصا تمتلك خاصات تجعلها متفردة وتحتم الاشتغال النقدي في ضوئها. ويحق أن نذكر منها:
1/ التركيز على مكون الزمن _ كما ورد في السؤال _ إذ حملت الروايات عناوين عبارة عن أرقام (67، وبرلين 69، و1970). والواقع أني لم أصادف بخصوص الرواية العربية تجربة نحت هذا المنحى باستثناء ما جاء به الروائي الراحل جميل عطية إبراهيم في " أوراق 1954" و "1981". و لعلك تذكر بأن هذا الروائي كتب رواية عن "أصيلا" في المرحلة التي أمضاها هنالك.
2/ كون مكون الزمن جاء تصاعديا (من :67 إلى : 1970). و هو ما يختزل بالتدقيق في رصد واقع ما قبل الهزيمة، ثم الهزيمة، إلى السنة التي فارق فيها الراحل جمال عبد الناصر الحياة.
3/ اعتبار المنجز الأخير الدافع الرئيس لإعادة النظر في الآثار الإبداعية للروائي صنع الله إبراهيم. فلم تعد– في ضوء هذا _ رواية " نجمة أغسطس" (1973) الأثر الثاني في مساره الإبداعي، وإنما رواية "67" التي كتبت في (1968) و تأخر نشرها لدواعي قد تكون أمنية في (2015)، أي بعد (45 سنة من تاريخ كتابتها).
4 / قوة حضور الذات. وهو ثابت رئيس على امتداد التجارب الروائية لصنع الله إبراهيم، حيث تتماهى شخصية الصحافي والمؤلف، و تتداخل الرواية بالسيرة الذاتية أو الغيرية أو بأدب الرحلة.
ويمكن أن نضيف لما سبق، كون هذا المنجز الذي اعتبرته ثلاثية متكاملة المعنى والمكونات، لم يحظ عربيا باهتمام نقدي موسع، إذا ما استثنينا ما كتب عنه داخل مصر، وعلما بأن الروايات السابقة نالت اهتماما واسعا من النقد الأدبي. وهذا واضح فيما جاء به محمد برادة، أحمد اليبوري، فيصل دراج، جابر عصفور، يمنى العيد و غيرهم.
البدايات والامتداد
*ألف صنع الله إبراهيم العديد من الأعمال الروائية، إلا أن مجموعته القصصية "تلك الرائحة" تمكنت من احتلال مكانة مهمة في متنه الأدبي. فما هو سر ذلك؟
أورد الناقد المصري الراحل جابر عصفور في كتابه "المقاومة بالكتابة" (2016)، دراسة وافية عن رواية "تلك الرائحة" في ضوء كونها الرواية النواة/ البداية في مسار صنع الله إبراهيم، حيث أشار إلى أن العنوان الأصل لهذه الرواية كان "تلك الرائحة التي في أنفي". إلا أن القاص والروائي الراحل يوسف إدريس بعد قراءته للرواية نصح بضرورة الاكتفاء فقط ب"تلك الرائحة". و ألمح في المقدمة لتي خص بها الرواية إلى كونها تجربة دالة عن كفاءة واقتدار، وسيكون لها ما بعدها و هو المتحقق لاحقا.
من هنا ولد الاهتمام النقدي الموسع إذا شئت ب(ظاهرة صنع الله إبراهيم). فمن ناحية مثلت تجربته نقلة لما بعد نجيب محفوظ من حيث صيغة الكتابة إلى المادة المتناولة على السواء. و كان صنع الله إبراهيم إلى كل من المبدعين عبد الحكيم قاسم، رؤوف مسعد و كمال لقلش أصدروا بيانا لما ينبغي أن تكون عليه الكتابة في سياق التحولات الاجتماعية، السياسية و الثقافية.
من ثم فما حظيت به هذه التجربة عكس كما نقديا مهما جدا، دون الغفل عن ما جوبهت به من انتقادات غايتها الأساس الحفاظ على الكتابة الروائية في صيغتها التقليدية. و أدرج الراحل جابر عصفور في نفس الكتاب نماذج من ذلك لكل من يحي حقي و محمود أمين العالم قبل إنجازه لكتاب "ثلاثية الرفض و الهزيمة"( 1985)
و المكرس لثلاثية صنع الله إبراهيم ("تلك الرائحة"، "نجمة أغسطس" و"اللجنة").
إن الاهتمام النقدي بهذه التجربة، اقتضى ألا أعود إليها سوى في حال المقارنة مثلا و "67"، حيث يرى البعض بأن الأخيرة بمثابة جزء ثان ل "تلك الرائحة". والأصل أن لكل رواية خصوصيتها و فرادتها.
إن مسؤولية الناقد _ كما أراها _ تتحدد في الإضافة و ليس التكرار لما قيل وسبق إليه. ومن ثم يحافظ الناقد على اسمه كما أثره/ آثاره.
الذاتي والموضوعي
*اعتبرت في كتابك "اكتمال الدائرة" أن لصنع الله إبراهيم قوة وفرادة كبيرتين في المزج بين الذاتي والموضوعي من جهة، والتاريخي والسياسي من جهة ثانية. ألا ترى أن هنالك أعمالا أخرى لأدباء آخرين تمكنت من السير على نفس المنوال كثلاثية حنا مينه الشهيرة: "حدث في بيتاخو"، و"المغامرة الأخيرة"؛ ثم "عروس الموجة السوداء"؟
إن لي أن أسوق كجواب عن هذا السؤال، واقعتين ترتبطان بالروائي السوري الكبير حنا مينه:
1/ الأولى تتعلق بطقوسه في الكتابة وعلى الإبداع. إذ أورد في سياق سؤال عن كتابته للرواية، أنه قد يخوض _ أحيانا _ في كتابة ثلاث روايات دفعة واحدة. إذ يحدث، أن يكون بصدد كتابة رواية أولى لولا أن الالهام يتوقف، فيشرع في ثانية وثالثة. و بالتالي، يظل موزعا بين الأعمال الثلاثة مما يوقع في التداخل بين الوقائع و الأحداث. فما اعتبرته في سؤالك ثلاثية، ترى الناقد اللبنانية يمنى العيد غيره حيث تتحدث عن "بقايا صور" (1975)، "المستنقع"(1977) و" القطاف" (1986). و الواقع أن الروائي و هو يكتب يحس بأن عمله غير متنه و لابد له من جزء ثان وثالث، و من هنا الرؤية النقدية التقليدية المتجسدة في كون الروائي لا يكتب سوى رواية واحدة و البقية تنويعات. ولاحظ مؤخرا أن الروائي النرويجي "كارل أوفه كناوسغارد" كتب سيرته الذاتية "كفاحي" في ستة أجزاء وهي أطول سيرة ذاتية عالمية.
2/ و أما الثانية فجاءت في معرض رده عن أديب خليجي ذهب في القول بكون الرواية ارتبطت نشأة بالقرية. إلا أن حنا مينه تدخل بالرد حيث اعتبر فن الرواية تحديدا فن المدينة. الفن المرتبط بالفرد في عالمه الداخلي و الخارجي، الذاتي و الموضوعي. فالرواية ولدت لتقول كينونة الإنسان التاريخية، الاجتماعية و الثقافية.
من ثم تحضر الذات في كل تجربة روائية، إلا أن تصريف العناصر الذاتية في الرواية يتباين بين كاتب وآخر.
حول البعد المأساوي
*لم يتمكن صنع الله إبراهيم من أن ينفصل عن جبة البطل المأساوي وليس التراجيدي على غرار جل الأعمال العربية. ما سبب ذلك؟
أعتقد بأن تأويلا من هذا القبيل، يعود في الجوهر للتماهي الكائن بين الشخصية والذات، إلى الحد الذي يحق في ضوئه اعتبار الآثار الروائية لصنع الله إبراهيم سيرة كبرى موزعة على روايات تتداخل وتتقاطع أحداثها و وقائعها. من جانب آخر، فإن ما عاشه صنع الله إبراهيم من اعتقال بحكم كونه
شيوعيا ومن غربة عن الوطن، أثر في/ وعلى مسار حياته. ويمكنك مقارنة نتاجاته الروائية وما كتبه عبد الحكيم قاسم ورؤوف مسعد، غالب هلسا ومحمد زفزاف. فالثابت في حيوات هؤلاء الكتاب: الذات و ما عاشته من انكسارات ومآس تجلت في الكتابة الإبداعية رواية وشعرا، وتذكر أن الناقد إدريس الناقوري استجلى الرؤية المأساوية في الشعر المغربي الحديث.
إن الواقع العربي في قوته وعناده وصعوبة تغييره، يستدعي رؤية كهذه.
في خاصة السادية
*هل يجب على الكاتب أن يكون ساديا مع أبطاله كي يقدم لنا عملا أدبيا رفيعا؟
ليس بالضرورة، ولئن كانت خاصة التلقائية _وهي نفسية _ تظل حاضرة في سياق عملية الإنجاز الإبداعي. إذ _ ومهما خططنا لصورة العملية الإبداعية _ إلا و يتم كسر التخطيط. فكم من كتابة سردية أريد لها أن تكون قصة فإذا بها تتحول رواية. و أستحضر الرباعية الروائية لعبد الله العروي :
("الغربة"، "اليتيم"، "الفريق" و "أوراق"). ذلك أن الروائي في البداية لم يفكر سوى في "الغربة" و"اليتيم"، وإذا العملية الإبداعية تمتد و تتوسع منتظمة صيغة و معنى لتغدو رباعية، وفي اللاحق أضيف لها نصان روائيان: " غيلة" و" الآفة".
من ثم فالعامل النفسي في الإبداع يظل ثابتا، و ما قد أراه نوعا من السادية يحكم عليه غيري بالعكسفيصل التأويل مداه. إذ الإشكالية النصية تفرض حضورها في حال غياب أي تفسير أدبي للنص. إلا أن حصول فعل القراءة النقدية بمثابة دعوة مفتوحة على التعدد القرائي النقدي و التأويلي.
عن علاقة المغرب بالمشرق
*كيف ترى اهتمام المغاربة الكبير بالأدب في المشرق وإهمال الأعمال الروائية المغربية، بل إن نصوص الشعب الأدبية عادة ما يتم استلهامها من أعمال المشارقة وليس المغاربة؟
أعتقد _ ومن وجهة نظري _ أن العلاقة بين المغرب و المشرق تتطلب وقفة أطول. و هي تندرج في سياق معرفي وفكري يتفرد بالأثر و التأثير. لكن الذهاب في القول بأن المغاربة أهملوا أدبهم لصالح المادة المشرقية غير صحيح. و دعنا نمثل و نتأمل. فالقصة القصيرة المغربية أو بالمغرب، حظيت بقسط أوفى من حيث الدراسات النقدية الجامعية خاصة،وغيرها. أمثل هنا بالضبط بأطاريح كل من الأساتذة: أحمد اليبوري و أحمد المديني و نجيب العوفي و الراحل عبد الرحيم المودن.
وأما في جنس الرواية فيستوقفنا لحميداني حميد في دراسته الرائدة عن الرواية المغربية. ويحق أن نضيف لهذه الجهود الجامعية الدراسات الشخصية التي كتبها كل من: إدريس نقوري ومحمد برادة و الراحل بشير قمري وسعيد يقطين و إبراهيم الخطيب وأنور المرتجي و غيرهم.
نعم يحدث أن يتحقق تدريس نماذج مشرقية على مستوى الجامعة المغربية كمثال "نجمة أغسطس" و"الزيني بركات" و "خطط الغيطاني". و هذا يندرج _ كما سلف _ في الأثر و التأثير، وكانت سيرة الراحل محمد شكري "الخبز الحافي" تدرس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، و أظن من طرف الناقدة سامية محرز.
إن التكامل هو ما يسم هذه العلاقة، خاصة و أن الظرف التاريخي جعل المشرق من حيث النهضة يمتلك قصب السبق، وهم ما أفاد منه المغاربة ككل.