مع قرب مطلع كل سنة ميلادية جديدة، واحتفال المسيحيين بميلاد نبي الله عيسى عليه السلام، يتجدد النقاش في أوساط كثير من المتدينين حول مشروعية تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، أو حتى مشاركتهم الاحتفال والاحتفاء بأحد الأنبياء الذين خصص لهم القرآن حيزا واسعا من الذكر والحكاية.
لا أحب هنا الدخول في معمعة تلك النقاشات السطحية والجدال العقيم حول هذا الموضوع، بقدر ما أريد التنبيه لعدد من التناقضات التي يسقط فيها هؤلاء المحرمون، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، تناقضات تبرز حجم الخلل في التفكير والسلوك، النابعين عن ذهنية استعلائية تستحق شيئا من الرصد والمتابعة.
المنطق الفقهي الذي يدعون له بل يتدينون به و ينافحون عنه، يجيز للمسلم نكاح نساء أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهو ما قد نص عليه القرآن صراحة وأباحه بلا إشكال، وقصد به من كانت على دينها وعقائد أهل ملتها، كما نص على ذلك الفقهاء جميعا إلا من شذ منهم.
لكن المضحك المبكي في الموضوع، هو أن هذا المنطق يجيز نكاح الكتابية ومعاشرتها ومضاجعتها في الفراش، وتقاسم الحميمية معها، لكنه بحكم عقيدة الولاء والبراء لا يجيز محبتها، ولا تهنئتها في أعيادها، ولا مشاركتها الاحتفال في مناسباتها، كما هي تفعل ذلك في مناسبات المسلمين وأعيادهم.
هو نفسه صاحب هذا المنطق، من يفرح حين يقوم ناد أوروبي كبايرن ميونيخ أو جوفنتوس أو برشلونة بتهنئة المسلمين بأعيادهم، ويعد ذلك نصرا للمسلمين، وغزوا لهم في عقر ديارهم، لكنه بالمقابل لا يرد التحية بأحسن منها ولا حتى بمثلها.
هو نفسه من يبيح لنفسه أن يبني المساجد بالدول الغربية، وأن يمارس فيها الوعظ والإرشاد بل حتى دروس الولاء والبراء و أحكام الكافر الحربي وفقه الجهاد والغزو، ويستدعي لقلب عواصم العالم مشايخه ودعاته ليحاضروا في الإعجاز العلمي ومنافع الحبة السوداء و فوائد شرب بول البعير، وهو الذي يحتج ويصيح ويولول حين تتخذ السلطات قرارا يحد من حرية أنشطته، أو يضيق عليه ممارسة شعائره، ويعتبر ذلك اضطهادا للإسلام ، وعنصرية وحقدا ضد المسلمين، وتنصلا من قيم الحرية والديمقراطية التي يرفع الغرب شعاراتها.
هو نفسه هذا الشخص من يرى أن غير المسلمين لا حق لهم في التبشير بعقائدهم في بلاد المسلمين، ولا حق لهم في بناء معابدهم ولا فتحها، ولا يسمح لهم بالحديث عن أنفسهم ولا التعبير عن هوياتهم والإفصاح عنها، بل لا يرى لهم الأهلية لنيل كل حقوق المواطنة بحكم اختلاف الدين ومنطق أحكام أهل الذمة.
يحق لنا أن نتساءل إذن، مالذي يجعل هذا النموذج من المسلمين يتعامل بكل هذه العنجهية والتعالي؟ مالذي يجعله يبيح لنفسه أن ينال من المختلف عنه ما يراه لمصلحته، وأن يمنع عنه ما في صالح غيره؟ مالذي يسمح له أن يعامل الآخر بسياسة الكيل بمكيالين؟
هي نظرية شعب الله المختار في نسختها الإسلامية، هو منطق الاستعلاء على الغير، والاعتقاد بالأفضلية والخيرية على كل البشرية، هذه الأحكام الفقهية ليست مجردة عن ذهنية وطريقة في التعاطي مع غير المسلم، بل ليست إلا مخرجات لها، وتنزيلات تطبيقية على أرض الواقع.
هو منطق من يراه أنه وحده على الحق، وغيره على الباطل، وأنه وحده من يمتلك الحقائق وتفسيرالظواهر الكونية والعلمية، بل وحده من يمتلك حق الوجود على هذه الأرض، وحق الهيمنة عليها، فهو الأعلى والأقوى والأنقى.
من هنا يؤمن الكثير بجهاد الطلب حيث يجب تسيير الجيوش لإخضاع البشرية للإسلام، أو أداء الجزية عن يد وهم صاغرون، ومن هنا كانت أحكام أهل الذمة، وما فيها من التنقيص من غير المسلم وإذلاله وتحقيره، ومن هنا قال الفقهاء لا يجوز تولية غير المسلم على المسلم، ولا يقتل مسلم به ، ولا تهنئته في عيده، ولا بدئه بالسلام، ولا رد التحية عليه كاملة، بل يضيق عليه في طريقه، ولا يحل له إظهار شعائره، ولا التعبير عن نفسه، ولا إحداث معابد له، وغير ذلك من الأحكام المنتشرة في كل مدونات الفقه.
ولئن كان هذا المنطق مفهوما في ظل سياق الصراعات الدينية والتوسع الامبراطوري، فما الذي يجعله مستمرا في العقول رغم تحول العالم نحو منطق الدولة الحديثة، التي لا تفرق بين مواطنيها بسبب اختلاف العرق أو الجنس أو الدين؟
لا شك أن الإحساس بالهزيمة أمام الآخر، والضعف أمام تفوقه، هو ما يلجيء للتشبث بهذا الفقه البائد، كنوع من التعويض الداخلي، وإيهام النفس بالانتصار،وتجاوز الهزيمة النفسية ، والمحافظة على الروح المعنوية التي تساعد على الانبعاث والعودة مرة أخرى.
بل إن هذا ما قد يفسر السر في تسامح هذا الفقه مع المناسبات اليهودية، فالاحتفال بعاشوراء مثلا رغم أصوله اليهودية، لا زال المسلمون يحتفلون به، ويحتفون بإنجاء نبي الله موسى من الغرق، فيما يحرمون الاحتفاء بمعجزة ميلاد نبي الله عيسى من غير أب، وهي أقوى وأشد إبهارا، لا يفسر ذلك إلا منطق الصراع التاريخي بين الحضارتين، بخلاف الصراع مع اليهود، الذي لم يأخذ شكلا حضاريا ولا توسعيا، بحكم انكماش اليهود على أنفسهم، على خلاف ما جرى بين المسلمين والمسيحيين من حروب دينية للسيطرة على الإنسان والأرض.
هي في الأخير، ليست أحكاما دينية ولا شرعية، هو منطق تاريخي واشتباك بشري، وهو منطق يعادي البهجة والفرح، وكل ما من شأنه إدخال السرور على النفوس وإشاعة الجمال، من يحول الأعراس إلى جنائز، و المناسبات إلى بدع ومحدثات، لن يحتفل لا بمولد نبي الله عيسى، ولا برأس السنة الميلادية، وسيبحث عن أي مبرر لرفضها، إن كان بدعوى التشبه بالكفار، أو بدعوى أنها بدعة منكرة، أو حتى بدعوى أنها تاريخ مغشوش.