يحتفل الأمازيغ خلال هذا الأسبوع بحلول السنة الأمازيغية الجديدة، مناسبة لتهنئة أنفسنا وكل الأمازيغ بحلول هذه الموعد السنوي، وفرصة أخرى لإثارة الحديث حول هذه القضية الهوياتية التي أسالت مدادا كثيرا، وأنتجت مواقف متباينة بلغت حد التناقض والتطرف.
لطالما عادى كثير من الإسلاميين الفكرة الأمازيغية ، كما أهملت الحركة الوطنية الملف الأمازيغي لعقود طويلة ، في مقابل اهتمام كبير بالثقافة العربية والإعلاء من شأنها في تأثر واضح بالمد المشرقي القومي والإسلامي، الذي يرى العربية ركنا أساسيا من أركان الهوية المغربية.
لطالما استدل كثير من الإسلاميين ببعض النصوص الشرعية الدالة على نبذ القبلية والعصبية وغيرها ، كالمقولة النبوية الشهيرة : "دعوها فإنها منتنة" ، وكذلك بعض النصوص العامة كحديث "لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى" ،فاستفادوا من ذلك إبطال الاعتزاز بالقومية واللغة الأمازيغية، واعتبار إحياءهما إحياء للعصبية الجاهلية، مما أعطى انطباعا بالتعارض بين الأمازيغية والإسلام، بل إن هؤلاء المعنيين خاضوا في سبيل ذلك حروبا فكرية كبيرة جدا ، ككل حروبهم الأخرى، لجزمهم بصواب رأيهم المستند على الحق المطلق .. الإسلام!
سألت نفسي في وقت سابق ، وأنا ابن الأب العربي و الأم الأمازيغية، هل كان الإسلام يقصد إلى محو الأعراق الأخرى وصهرها ضمن البوتقة العربية الخالصة ؟ أيمكن أن يكون الأمر كذلك كما تربينا عليه في محاضن الحركة الإسلامية، والقرآن نفسه يعترف بكافة الأعراق والأجناس ، بل ونبه إلى أن تعددها وتنوعها من مقاصد الخلق الإلهي ، ما جدوى قوله تعالى إذن في كتابه العزيز : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا).
ألم يكن القصد من التعدد هو قصد التعارف ، والتعارف هنا مفهوم ثقافي عميق الدلالة ، يحيل إلى أغراض التواصل والانفتاح والتفاهم ، وقبول الآخر أيضا ، وهو الأمر ذاته الذي يفتقده كثير من الإسلاميين إلى اليوم – في مفارقة غريبة-، حين يعلون من شأن العربية والانتماء العربي على حساب الهوية القومية الأمازيغية.
ولقد كان هذا المعنى حاضرا في أذهان المسلمين على امتداد التاريخ الإسلامي ، فألفوا كتبا بمختلف اللغات ، ولم يسعوا في وقت من الأوقات إلى فرض لغة ما على عموم الأمة الإسلامية آنذاك.
نعود من جديد إلى استحضار عامل الاديولوجيا التي دمرت الكثير من الأسس التي كانت صالحة لبناء مجتمع أكثر تسامحا مع التيارات الفكرية ، وأكثر انسجاما وانفتاحا في الوقت ذاته، فلقد كان لتبني بعض أبناء الحركة الأمازيغية مواقف متطرفة من العربية – ومن الإسلام في بعض الأحيان- ومغرقة في التأدلج ، ردة فعل متطرفة من جهة كثير من الإسلاميين في جعل العربية والإسلام شيئا واحدا.
إن تاريخنا المغربي مثقل بذاكرتين عن العلاقة بين الفاتحين العرب ، والسكان الأصليين الأمازيغ ،الذاكرة الأولى تمجد الفتوحات الإسلامية ، وتصور عملية الفتح في شكل ملائكي صرف ، وذاكرة ثانية تستحضر عمليات الاسترقاق التي مورست ضد الأمازيغ ، وعدد من الإجراءات الظالمة أيام الدولة الأموية.
ينكر هؤلاء الإسلاميون التاريخ السيئ كعادة كل التراثيين في تلميع الماضي حتى لا ينهار مشروعهم ، ويعتبرون أن الحركة الأمازيغية إنما هي الوجه الآخر للشيوعية واللائكية ؛ ويمعن أنصار الحركة الأمازيغية في استعادة تاريخ لم يعُد يمثل ثقلا أساسيا مع التبني التدريجي للحداثة ومفهوم الدولة المدنية، الأمر الذي يقطع بالضرورة مع أي ماض سياسي كيفما كان.
لنترك التاريخ جانبا ، ونتأمل في القضية الأمازيغية اليوم بعد كل الأشواط الكبيرة التي قطعتها النضالات الأمازيغية من أجل إعادة الاعتبار للهوية الأمازيغية، كأهم مكون - بعد الإسلام – في النسيج الهوياتي المغربي.
ما من شك في أن وضع القضية اليوم أفضل حالا مما كان عليه سابقا: الدسترة ، وإحداث معهد ملكي للدراسات الأمازيغية، ومحاولة إدخالها إلى المقررات الدراسية، وإن كان الأمر يعرف تعثرا كبيرا لعدة أسباب ..؛ لكن الملاحظ يرى – وبجلاء شديد- أن موقف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين لا يعرف نفس التطور ولا نفس الديناميكية في التفاعل، الأمر الذي يفسر العجز الشديد في ممارسة التأطير السياسي والثقافي في سبيل ترسيخ قوي وفاعل للهوية الأمازيغية.
بعض هذه الأسباب يرجع إلى الترسبات التي ورثت من حقبة السبعينات والثمانينات ، حيث كان التيار القومي على سبيل المثال متأثرا بشدة بالنماذج الاشتراكية المشرقية غير المشرفة كحزب البعث في العراق وسوريا ، وفي المقابل كان الإسلاميون مأخوذون بالخطابات السلفية الوهابية التي تجعل كل حديث عن الهوية بمثابة تعصب عرقي "لا يجوز شرعا".
كل هذا ينبغي أن ينتهي اليوم، لا يمكننا أن نبني هوية يئن تحت سطوتها فئات عريضة من أبناء المجتمع المغربي ! ، هذا التصرف لا يشبه إلا الإديولوجية النازية بشكل متطابق تماما.
لقد كان للأمازيغية دور حضاري فعال في بناء امبراطوريات مغربية قوية، سواء كان ذلك قبل الإسلام أو بعده خلال العصر الوسيط، كالمرابطين والموحدين والمرينيين ، ولم يكن هناك من صراع بين المكونات العربية والأمازيغية ، فالموحدون – بصفتهم أعظم امبراطورية مغربية- كانوا يكتبون الكتب المؤسسة بالعربية والأمازيغية على حد سواء ، ولم يدعوا في يوم من الأيام نسبا عربيا كما كان يفعل الكثير من الناس آنذاك لاكتساب السلطة الرمزية والسياسية.
واليوم ينبغي أن يعود هذا الدور ليأخذ حجمه الطبيعي في بناء مغرب متعدد الهويات والروافد الثقافية، عبر التكريس الإيجابي للأمازيغية ضمن الخارطة الثقافية المغربية، عوض إنتاج تطرف إقصائي أمازيغي مقابل تطرف عروبي لا يخدم أي منهما مشروع الدولة الحديثة، التي تحفظ قيمة المواطنة لجميع أفراد الشعب على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية والجنسية.