قال الدكتور سعيد شبار، الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى، إن "أبلغ درس يمكن أن نستفيده من رواد النهضة في بلاد المسلمين الذين بعثوا من جديد فكرة الإصلاح، أنهم قدموا للأمة مشاريع في: تجديد الفكر الديني، وفي إصلاح نظم التربية والسياسة، وفي العدالة الاجتماعية، وفي الحرية والتحرر، وفي وحدة الأمة ونهضتها، وفي شروط النهضة، وفي العلاقة مع الغرب، كيف نستفيد منه وكيف نحد من تسلطه".
وأضاف في دراسة له حول "إمارة المؤمنين وضبط الاعتدال والتوازن بين روح العصر وروح الدين" نشرها في مركز دراسات المعرفة والحضارة، "لم يكن هم أي منهم المنافسة على الحكم ولا التغيير بامتلاك السلطة، إنما كان همهم التغيير بامتلاك الأنفس صلاحا في الفكر والتربية، وفي الأحوال والنظم المختلفة، التي بها صلاح المجتمع والأمة".
وتابع: "لم يُشكل للأسف هذا الجيل الإصلاحي مرجعية للفكر الحركي لدى التيارات الدينية التي جاءت بعد؛ بل ولم تُدرس بعد، بشكل دقيق، أسباب هذه القطيعة والنكوص الارتدادي عن مشروع الفكرة الإصلاحية الكلية، إلى البحث عن الشرعية التنافسية السياسية، أو المنازعة على السلطة والحكم".
وأبرز أن "أهم ما قيل من خلال التتبع لما كتب في تشخيص هذه العلة، وهو قيل جدا أن ثمة سببين رئيسين: أحدهما الاختطاف السياسي لتلك المشاريع، والثاني التدخل الأجنبي والضغط الداخلي لوقفها. وإن كان هذا على جانب من الصحة عموما، فإن تدقيق النظر في هذا النكوص كفكر وتربية وممارسة، لا يزال حاجة قائمة ومطلوبة".
ولفت إلى أن "ممارسة التغيير في هذه الأبعاد الكلية، باسم السياسة بما هي تنافس وتدبير جزئي للمصالح، فوت على كثير من الناهضين للتغيير والاصلاح، ممارسته من خلال بوابته الكبرى التي هي الدين القائم على تخليق الحياة العامة ظاهرا، بما يحفظ نظامها وأمنها، ويرعى المصالح المختلفة فيها؛ وعلى تزكية الأنفس باطنا، بما يحفظ طمأنينتها، وحسن سلوكها وتصرفها في علاقات الناس المختلفة، حفظا للحقوق وأداء للواجبات".
وأكد أن "الاستعمار الغربي وإلغاء الخلافة، كان لهما دورا حاسم في نشوء وتأسيس تيارات وحركات دينية وفكرية ذات مرجعيات وولاءات مختلفة؛ بعضها موالي للغرب نفسه، ممثلا في التيارات التغريبية المختلفة؛ وبعضها متشبث بقوميته العربية ممثلا في التيارات القومية المختلفة؛ وبعضها اتجه الى استعادة أمجاد الإسلام والتمكين له، تجلى في نشأة تنظيمات حركية إسلامية مختلفة كذلك".
وأشار إلى أنه "إذا تجاوزنا خطوط الاعتدال في هذه المكونات، التي كان بينها سجال حاد وحيوي، هو استمرار لأسئلة الجيل الأول للنهضة العربية بمدارسها المختلفة، في قضايا: الوحدة والتحرر والنهضة والتقدم والإصلاح والتغيير والتربية، والتعليم، سوف ننتهي في فترتنا الراهنة الى خطابات عارية عن تلك الأسئلة ومضامينها العلمية والمعرفية، بل والى تراجع ونكوص كبير لفائدة شعارات مفرغة من المضامين تبحث عن الشرعية أكثر مما تحمل مشروعا، وتتطلع الى الحكم والسلطة أكثر مما تتطلع الى التبليغ والاصلاح".
وسجل أنه "ثم نشأت تيارات الغلو والتطرف الديني النازعة الى الحكم والسيطرة، تقفز على التاريخ وتطوي مراحله من أجل استعادة تقليد الخلافة أو الامامة ولو بأبشع وأقبح الوسائل، المنتهكة لأعلى وأكبر الكبائر والمحرمات في قتل الأنفس، وهتك الأعراض، وسلب الأموال، وترويع الآمنين، والفتنة في الدين".
وذكر أنه "حاولت بعض تيارات الغلو والتشدد الانتساب إلى مفهوم الامامة أو الامارة، بل والمصادرة عليه؛ لكن غاب عنها أن الإمامة نسب أو سند شرعي ممتد وعريق في التاريخ؛ وأنها تتقرر بالبيعة الشرعية رضا ومحبةً وولاء، وليس قهرا وتسلطا وغلبة؛ وحتى إن شاب بعض صورها، وفي التاريخ شيء من هذا، فإنه لا يحجب أصلها الشرعي؛ وأنها لخدمة مصالح الأمة والتمكين لضروريات الدين، والحفظ قيمه العليا في الحياة، أنفسا وعقولا وأموالا وأعراضا، وليس انتهاكها وإهدار حرمتها؛ وأن للعلماء ومشيخة العلم الوارثة للعلم النبوي الدور المحوري في تبليغ وبيان التزامات الإمام مع الأمة، وأنها بعد هذا كله رمز وعنوان على الوحدة والانسجام، والأمن والاستقرار، والسلامة والطمأنينة؛ وليس الفتنة والخوف، والصراع والنزاع".
وأورد أن "إرث الإمامة اندثر كذلك، بعد أن حل وهيمن نموذج الدولة الحديثة، التي عرفها السياق الفكري الديني والسياسي في الغرب، والتي تسير على خطاها اليوم بشكل متفاوت سائر الدول بما فيها الدول الإسلامية، ومنها المغرب مع خصوصيته التي تفرد بها؛ وذلك لإيجابيات تنظيمية وتدبيرية كثيرة مشتركة في نموذج الدولة الحديثة، لكن أيضا بخصوصيات تاريخية دينية وسياسية، مؤطرة لهذا القطر من الأمة، في سياق تطوره الذاتي. أي أن المغرب استطاع أن يحقق معادلة التوازن الجامعة بين روح العصر وروح الدين، دون إفراط أو تفريط في أحدهما على حساب الآخر".
وسرد أن "نظام الخلافة والإمامة اندثر وتلاشى في بلاد المسلمين، بسبب الخلاف والصراع، من جهة، وبعد اتصال المسلمين بالغرب الاستعماري، من جهة أخرى، وذلك بإعلان انتهاء آخر نموذج له في الخلافة العثمانية؛ آل هذا النظام الى الضعف حتى قيل عنه أنه كان مثل عصا سليمان عليه السلام، تحمل جسدا للأمة هالكا منخور الداخل، من كثرة النزاع والصراع؛ وما دلهم على موته إلا الاستعمار، كما دلت الأرضة التي نخرت العصا على وفاة سيدنا سليمان. وبقي هذا الإرث راسخا في بلد واحد من بلاد المسلمين، هو هذا المغرب الأقصى. ومن يتتبع، العهد الادريسي الأول، الى العهد العلوي الراهن، سيعرف معنى هذا الرسوخ الذي شكل وصاغ هوية المغرب، وخصوصيته الدينية والسياسية عبر التاريخ؛ سواء في استقلاله عن الخلافة والمؤثرات المشرقية، أو في تدبير شؤونه الداخلية".
وأوضح أن "نشأة الدولة الحديثة، إنما كانت بعد حروب وصراعات دامية بين مؤسستي الدين والدولة، ونزوع كل منهما الى التحكم والاستفراد بالسلطة، حيث كانت أغلب الممالك في أوروبا الوسطى تحكم باسم الدين، وحيث كانت الكنيسة تحظى بثقة الشعب الذي كان يراها مفوضة من الإله وتطبق إرادة الرب. ويكفي أن نذكر هنا ما عرف بحروب الثلاثين عاما بين الأوروبيين، الكاثوليك والبروتستانت، من 1618 الى 1648، حتى قيل إن عدد سكان أوروبا تناقص بسببها الى الثلث أو أكثر؛ وفي ألمانيا وحدها التي كانت ساحة أساسية لهذه الحرب، تناقص عدد السكان من 20م الى 13م بسبب القتل والنزوح".