بقلم : إدريسي فاطمة الزهراء
في فصل جديد يضاف إلى رواية الصمت المدقع للحكومة تحت عنوان "نحن نعمل ولا نتكلم"، شهد مجلس النواب يوم الإثنين الماضي أحداثا سافرة على البث المباشر أدهشتنا جميعا بوقاحتها الفائقة.
فبعد "الأحد الأسود" لم نكن نتوقع أن نعيش "الإثنين الأسود"، حيث رفضت الحكومة الاستجابة لطلبات الفرق البرلمانية وخصوصا المعارضة منها لمناقشة الاحتقان الذي تعيشه كليات الطب والصيدلة منذ شهور، خاصة ونحن على مشارف سنة بيضاء.
وبعد رفض أي شكل من أشكال الوساطة التي اقترحتها فرق المعارضة، ها هي الحكومة تبالغ في تعنتها وترفض أي نقاش مؤسساتي بمبرر أنها ليست مستعدة للتفاعل مع هذا الموضوع الحساس.
فغاب الوزير الوصي على القطاع عن أشغال الجلسة الأسبوعية المخصصة للأسئلة الشفهية وغابت معه الحقيقة التي ربما لا يمتلكها حول مصير أطباء المستقبل، مما لم يبق أي خيار لفرق المعارضة إلا خيار الانسحاب من جلسة باردة لا تستحضر حرارة هذا الموضوع الذي تكوي به قلوب آباء وأولياء الطلبة الأطباء، كرد على تعنت حكومة أخنوش واحتقارها المتواصل للمؤسسة التشريعية ولدورها الرقابي والتقييمي، وفي ازدراء تام لكل من كان يتابع أطوار الجلسة من عامة الشعب.
ما حدث يوم الإثنين يدفعنا كمواطنين للتساؤل: ما الجدوى من البرلمان؟ ما الفائدة من العمل السياسي ككل؟ لماذا أهلكنا أنفسنا في الجامعات بكل تلك المحاضرات والعروض حول الدستور والمؤسسات والوسائط؟ ثم الأهم من ذلك إذا كانت الحكومة لا تكترث بنواب الأمة من المعارضة الذين يمثلون هيئات سياسية وطنية لها مكانتها ودورها في البلد، فكيف ستكترث لنا كمواطنين لا حول ولا قوة لنا؟
كما هو الشأن بالنسبة للعديد من المواطنين وعائلات الطلبة، كنا ننتظر بشوق كبير هذه الجلسة علنا نحظى بجواب أو نتلقى إشارة من الحكومة تحمل ولو قليلا من الأمل لحل هذه الأزمة التي عمرت طويلا.
هؤلاء الطلبة الذين ليسوا سوى أبناء هذا الوطن الذي يضمن لهم أو بالأحرى يتضمن دستور بلدهم الحق في التعليم، إذ ينص الفصل 31 على: "تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في ... الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة".
غير أن حكومة الكفاءات لا تستند إلى الدستور ومقتضياته إلا فيما يهمها بالذات، ولا تفهم منه سوى حصولها على أغلبية مريحة تستأسد بها على المعارضة وعلى المؤسسات وحتى المواطنين أحيانا.
وإذا كانت جلسة يوم الإثنين فرصة لطمأنة الطلبة وعائلاتهم وتقديم مقترحات وحلول من طرف الحكومة للخروج من هذا النفق المظلم، فإنها للأسف آثرت الصمت والهروب إلى الأمام ضاربة بأي بصيص أمل مفترض عرض الحائط، وفي خرق سافر للدستور، ودون مراعاة مشاعر شريحة واسعة من الأسر المعنية بهذا الأمر.
وليس هناك أشد على الناس من حرمانهم من الأمل، والحكومة بتعنتها لم تقس فقط على طلبة الطب وعائلاتهم، بل أحيت بداخلنا الخوف على مؤسساتنا الوطنية المفروض فيها القيام بدور الوسيط لتؤكد لنا مرة أخرى بأنها تؤمن فقط بلغة الضغط فاتحة الباب لاحتجاجات الشارع عوض حوار المؤسسات، معرضة البلاد والعباد لاحتقان اجتماعي غير مسبوق وغير محسوم النتائج.
نحن أمام حكومة مستعدة للعبث بالسلم الاجتماعي، فأغلبيتها العددية في قبة البرلمان أوهمتها أنها قادرة على فعل كل شيء وأي شيء في خرق لضوابط وقواعد العمل السياسي النظيف. وأمام هذا المشهد غير المسؤول للحكومة، وبعيدا عن الحديث عن دستور 2011 وما جاء به لتعزيز وتقوية المؤسسات وضمان فصل السلط وتكاملها، والخوض في النظام الداخلي للمجلس، ولكن بمنطق المواطن البسيط الفاقد للثقة في العمل السياسي والحزبي، كيف لنا أن نقنعه بنجاعة مشاركته السياسية وما هو العرض الذي بقي لنا بعد الذي يحدث لنقدمه من أجل الانخراط في العمل الحزبي، وهو لا يرى ولا يجد أي صدى لمعاناته داخل المؤسسة التشريعية والتي من المفروض فيها أن تحتضن نوابا يمثلونه وينقلون همومه بقدر الثقة التي جعلوها أمانة في رقابهم؟ إلى من يشتكي حاله وويلاته وهو يرى رفض الحكومة سماع ممثليه؟ لتكون الإجابة البديهية هي "المشكى لله الواحد الأحد القهار".
إذن، مرة أخرى نتساءل: ما الفائدة من المؤسسات، من الأحزاب، والانتخابات؟ وعندما يتم تغييب دور الوسائط، فمن سيواجه الشعب غدا؟ هل بهكذا تعنت سنعيد ثقة المواطنين وخصوصا الشباب منهم في العمل السياسي؟ أبهكذا عجرفة سنرد الاعتبار للعمل السياسي الملطخ بسلوكيات دخيلة على الديمقراطية التي أسسنا لها منذ عقود، ولدور المؤسسات التي أصبحت تنتهك حرمتها نهارا جهارا؟ كيف لنا أن نعبئ المواطنين للانخراط بل ولإنجاح الأوراش الكبرى المقبلة عليها بلادنا؟ مخطئ من يعتقد أن المواطن مغلوب على أمره ومشغول بالبحث عن قوته اليومي الذي أصبح يفوق قدرته الشرائية المتجاوزة بسبب الارتفاع المهول في الأسعار، ارتفاع طال جميع المواد والسلع حتى تلك التي لا تستورد من أوكرانيا والبريئة من الكوفيد وتداعياته والجفاف وانعكاساته. المواطن تواق إلى الحرية والكرامة ومتطلع إلى توسيع الأفق ورفع سقف حقوقه وحرياته كما يكفلها له الدستور.
المواطن واع وله حس وطني كبير يحمله على تحمل لهيب الأسعار في سبيل الحفاظ على السلم الاجتماعي وسلامة البلد لأنه على دراية بالتحديات الكبرى التي تواجهها بلادنا، كذلك لأنه مدرك، أكثر من حكومة أخنوش، بعقبات وعواقب المس بالسلم الاجتماعي.
هذه الحكومة للأسف تفتقد هذا العمق السياسي وقد تجسد ذلك في مقاربة تعاملها مع الاحتجاجات التي عرفتها مجموعة من القطاعات ولا سيما أزمة قطاع التعليم، لتؤسس بذلك لمنطق جديد وغريب عن بلادنا يتمثل في أن من يصرخ عاليا بالشارع تستجاب مطالبه، ضاربة عرض الحائط دور الوسائط التقليدية وفي تجاوز وتجاهل للمؤسسات. فعوض سلك سبيل التهدئة واتباع لغة الحوار، تفضل خيار الصمت متوهمة أن "كم من حاجة قضيناها بتركها"، مما أفقد النخبة، على قلتها، قبل العامة الأمل في ممارسة سياسية سليمة تنتصر لروح دستور 2011.