الجزء الأول.. الأشجار تمشي في الإسكندرية وفي كل المدن

هادي معزوز

كتلخيص عام:

...مصر إبان زمن جمال عبد الناصر.. مصر بعد ثورة الضباط وما رافق ذلك من ترتيب للأولويات الأمنية المتجلية في مراقبة كل كبيرة وصغيرة من سلوك الناس وما يتفوهون به داخل الفضاء العمومي وفي غرف نومهم.والسياسية المتمثلة في تبني النموذج الاشتراكي. والاقتصاديةالقائمة على تأميم الشركات الكبرى ونزع الملكية من كبار الملاك والأرستقراطيين سواء الأتراك أو اليونان منهم أو المصريون أيضا وبعض من باقي الجنسياتالأخرى.. أصدقاء يجتمعون ليلا فيما بينهم داخل البار الصغيرالتابع لمطعم شهير بالإسكندرية اسمه أرتينوس، يحدث ذلك عند نهاية استقبال الزبناء، هؤلاء الأصدقاء أطلقوا على جلستهم اسم الكوكاس، أو بالأحرى أطلقها عليهم القنصل الأمريكي ذات يوم، والتي تدل على تجمع دوري لمجموعة من الناس لهم اهتمامات سياسية مشتركة: يتناقشون فيما بينهم.. يستفزون بعضهم البعض..يبدون آراءهم حول ما حدث وما يحدث وما يمكن أن يحدث. يختلفون حول بعض الأشياء ويتفقون حول بعضها الآخر وكانت هذه سنة البشر في الأرض. إلا أن المثير فيهم أنهم كلما بدوا متشابهين كلما اختلفوا فيما بينهم أشد اختلاف. فهذا كارلو الإيطالي الرجل الثاني في المطعم بعد وريثته الشرعية، يزيل عنه دور اللباقة مع الزبناء حينما ينتهي عمله فيتحول حينئذ إلى زبون فوق العادة رفقة أصدقاءه من أعضاء مجموعة الكوكاس. هو الذي يتكلف بتوزيع الكؤوس ومراقبة من لعبت به الخمرة قصد التصرف وفق ما ينبغي أن يكون عليه الأمر بكل ما تحمل الاحترافية من معنى، لم لا وهو الذي لا ينظر إلى وظيفته من باب الشغل الروتيني، بل إنها شكلت جزءا لا يتجزأ من حياته، يحبها ويعشق الانتباه إلى أدق التفاصيل فيها. إلا أنه يخدم مجموعة الكوكاس بدافع الصداقة وليس من باب اللباقة طبعا.

وهذا المحامي عباس القوصي صاحب الخبرة في بنية النظام السياسي، والعارف بدواليب الحكم وكيف أن السلطة مهما أظهرت جانبا لطيفا أمام الجمهور، فإنه يظل مجرد مطية يخفي أكثر مما يظهر، عباس القوصي الذي يتكلم دوما بلغة القانون، عباس القوصي الحذر لا يخفي موقفه الرافض لنظام حكم عبد الناصر، القائم على تدجين وقمع المواطن المصري المغلوب على أمره. أما زوجته نهى الشواربي فإنها تحمل في ذاكرتها ندوبا تكفي لوحدها كي تكون رواية في حد ذاتها، لم لا وهي ابنة إسماعيل باشا الشواربي الذي صودرت ثروته الرمزية منها والمادية التي بناها بعرق جبينه، كما أنه جرب ويلات السجن وكيف دار به رحى الزمن،فتحول من وزير وإطار دولة محترم إبان النظام الملكي، إلى شخص مغضوب عليه حيث انتهت مأساته بوفاته بعد خروجه من المعتقل، مما جعل من نهى الشواربي سيدة لا تخفي حنقها وحقدها على النظام السياسي الجديد.

ويكفي أن نلقي نظرة خاطفة على اسم ليدا أرتينوس حتى نعرف أنها صاحبة مطعم أرتينوس بعد أو ورثته عن والدها وحافظت على إيقاعه وسمعته وكأنصاحبه لازال حيا يرزق. بجانبها يجلس الفنان أنس الصيرفي، شخصية مشاغبة وقد جعلت من حياتها لوحة فنية حقيقية من الصعب التكهن بشكلها النهائي. شخصية متمردة لا تخفي موقفها اتجاه ما يحدث، إلا أن ما كان يميزه داخل مجموعة الكوكاس، أنه كثير الاستفزاز لزميلته الفرنسية شانتال، صاحبة مكتبة كانت تشهد على أنشطتها التي لا تخرج عن تنظيم حفلات توقيع الكتب، واستقبال شخصيات ثقافية من دول المعمور، إلا أن الركود طبع مشروعها الثقافي بعيد ثورة الضباط بسبب الرقابة التي كانت مفروضة سواء على الكتب المعروضة، أو على الشخصيات المناوئة لنظام جمال عبد الناصر. يُعرف على شانتال أنها حينما تشرب حتى الثمالة ينطلق لسانها متحدثا عما لا يمكن أن تبوح به، وإن كان من شروط مجموعة الكوكاس أن أعضاءها ليسوا ملزمين بتبادل الأسرار فيما بينهم دون أن يؤثر هذا الأمر على العلاقة الودية بينهم.

لا يمكن أن تكتمل الجلسة الباخوسية بين الأصدقاء، دون الحديث عن توني كازان اليوناني، صاحب مصنع شهير لصنع الشكولاتة، وسليل أسرة ثرية استوطنت الإسكندرية منذ زمن ليس بالقصير... هؤلاء إذن هم أعضاء الكوكاس، لكل عاداته التي يتميز بها، لكل موقفه الذي يستند إليه في الحكم على الأشياء، ولكل منهم نظرته الخاصة نحو المعتقد والوجود والمشاعر... إلا أن القاسم المشترك بينهم يتجلى في حبهم غير المشروطلبعضهم البعض. هذا وبالرغم من أن أغلبهم ليسوا من أصل مصري، إلا أن لديهم اعتقادا راسخا يؤمن أشد الإيمان أن العالم يبدأ من الإسكندرية وينتهي إليها، مجسدين هذا الارتباط السُرّي مع مدينة لا تلخص حال مصر وإيقاعها قبل وبعد الثورة. وأما القاسم المشترك الأخير، فإنه لا يخرج عن موقفهم الحذر نحو النظام السياسي الجديد، وكيف أنه نموذج حي لتكبيل حرياتهم وحماقاتهم ومغامراتهم أيضا. يحدث كل ذلك باسم الثورة التي حملت شعار تحرير الفرد...

ـ يتبع ـ