قراءة أولية
إذا أردنا تصنيف روايات علاء الأسواني على مستوى الغاية والمضمون، سنلاحظ أنها تحترف تعرية المجتمع المصري بمختلف طبقاته ـ وإن كان التركيز في هذا الباب متجها بشكل كبير نحو الطبقات الميسورة، أو الذين يمسكون بزمام السلطة دون تعميم بطبيعة الحال ـ تقف على عاداتهم وتصرفاتهم وازدواجية الخطاب لديهم، تضع الأصبح على الجرح وتسمي الأشياء بمسمياتها، تنتقد الأنظمة الحاكمة مثلما تنتقد رد فعل الشعب المصري المهووس حد المرض بتقديس الزعيم، والذي حينما ينتهي أمره يصرف الشعب حبهم كله إلى الزعيم الجديد وهكذا دواليك.
وإذا حاولنا العودة إلى الأعمال الكبرى لعلاء الأسواني، أولها "شيكاغو" وثانيها "نادي السيارات" وثالثها "جمهورية كأن" ورابعها "الأشجار تمشي في الإسكندرية" سنلاحظ أنها كلا متجانسا بالرغم من اختلاف الأحداث والزمن والظروف والتيمة. ما الذي يعنيه بهذا الأمر؟ لا شك أن أول ملاحظة يمكن الاستناد إليها، أن الزعيم في مصر يصل إلى السلطة بالغلبة والقوة، ثم يسري عليه ما سرى على الذي من قبله. سيحصل هذا الأمر بدءا من ثورة الضباط إلى يومنا هذا. الشعب المصري يقدس جمال عبد الناصر وينظر إليه بمنظار الذي سيخلصهم مما هم عليه من بؤس وتخلف. أنور السادات بدوره يريد ترك بصمته. الكل يتودد إليه، الكل يحترمه ويحبه ويدعو له بطول العمر وبأن يتغلب على أعداه وأعداء الدين. من اغتال أنور السادات؟
حسني مبارك هو الآخر يمثل استمرارا غير مباشر لدائرة ثورة الضباط أو ما تبقى منهم، ستعلو صوره المكاتب الحكومية والطرق والفضاء العمومي بصفة عامة، لقد علمهم ولقنهم أنه ليس رئيسا لمصر ينتهي أمره عند ولايتين على غرار الدول التي تحترم ذكاء مواطنيها، ولكنه زعيم خالد لن يثنيه أي شيء على قيادة مصر نحو الأفضل، وأنه سيبقى زعيما أبديا إلى آخر رمق له في الحياة. "الربيع العربي" حدث يشبه كثيرا ثورة الضباط، يعدون الناس بالقانون والعدالة والمساواة... ثم ينقلبون بعدئذ ويتحولون إلى وحوش ضارية لا تقبل من ينتقدها، وإذا ارتكبت ما لا يقبله القانون ويجرمه، فإنها تبرر ذلك بأن الثورة تأكل من أبناءها كي تضمن استمرارها، وأن نتائجها المثمرة لا يمكن أن تتحقق على المدى القريب، يفعلون هذا وأكثره إلى حين التحكم في كل شيء.. تجربة الرئيس مرسي كذلك لم تنفلت من سابقاتها، مرسي الذي حملته أكتاف الصادحين بغد أفضل في ميدان التحرير، حافظ بدوره على المصالح المجالية من خلاله وضع كل البيض في سلة قطر ضدا على دول الخليج. هل كان يخدم الشعب أم كان يخدم أجندات خارجية معقدة ومشحونة إيديولوجيا، تبدأ من قطر وإيران، وتنتهي عند حزب الله مرورا بحماس...؟ لقد خيب ظن الذين وثقوا به، وهنا أتحدث عن الشعب المصري والعربي المقهور والساذج. كان آباؤهم يقدسون جمال عبد الناصر من المحيط إلى الخليج، وهاهم الأبناء يرون في مرسي البطل الأسطوري والمهدي المنتظر في السياسة. لكن سيتضح بعدئذ أنه وضع نفسه فيما لا يُحسد عليه. من سيأتي بعده؟ نظام السيسي؟ هل جاءت به صناديق الاقتراع؟ ومتى كانت هي المحدد الرئيس لاختيار الشخص المناسب في بلد عربي متخلف؟
خطاب جمال عبد الناصر يشبه إلى حد كبير خطاب السادات ومبارك ومرسي والسيسي. وإذا أردنا أن نقرأ ما وراء سطور علاء الأسواني، فيكفي أن نعود إلى مقالاته التي كان يكتبها قبل وعند الثورة. كان الرجل صادقا مثلما كان حالما بما بعد ثورة ميدان التحرير، لكنه لمّا صُدم فقد عبَّر في الحين عن صدمته بأسلوب صريح ومباشر. انتقد مرسي وزبانيته، ثم وجه انتقاده أيضا إلى السيسي وأتباعه.. وهكذا نخلص من كل ما ذكرناه، أن رواية "الأشجار تمشي في الإسكندرية" لا تتحدث فقط عن فترة جمال عبد الناصر، بل إنها امتداد تاريخي وجغرافي يتمرد على أحداث القرن العشرين ويقطع الحدود نحو كل الاتجاهات دون جواز سفر ودون الركوب في الطائرة...
ـ يتبع ـ