شاءت الصدف - إن كان لها وجود أصلا - أن أتناول أول فنجان قهوة بعد العودة إلى الوطن، على إيقاع أغنية "مهبول أنا". ولأنني قاومت لأيام، بحكم القناعات، أن لا أكتب ولو حرفا عن الداخل، من خلف الحدود، حركت في الإيقاعات ما كَبتُه لأيام. تُهت وسط التفاعلات مع كل الأحداث المتسارعة التي وقعت، مؤخرا، وكلها مرت بسرعة بدون اهتمام لأنها تتكرر. لكن، في ما يتعلق بمشاهد ترجمت واقع شباب يائس، وقفت بتركيز وحسرة. تملّكني الخوف من عدد القاصرين وسط من حجوا إلى ما بين الوطن والتراب المحتل، بحثا عن الفرار من "أول دولة اجتماعية في إفريقيا"، كما صاح فينا رئيس الحكومة أخنوش، من أكادير.
كنت أود أن أخوض في ما وقع من زاوية التساؤل والشك، أن أطرح علامات استفهام مقلقة؛ من قبيل: من اختار التاريخ؟ ومن دفع بتنزيل الدعوات عبر منصات التواصل الاجتماعي، بحرفية عالية؟ من أقنع مؤثرين في الخارج بالانخراط في هذا الفعل والتحريض عليه؟ ومن له المصلحة في هذه الهزة التي تحدث بعد ما سبقها من إشارات اجتماعية وإنسانية؟
سأترك كل ما سبق جانبا. لا يمكن طرح إجابات هكذا بدون تقص وتمحيص وتحليل وتحقيق. وحين وصفت الواقعة بأنها هزة اجتماعية وإنسانية، فهي كذلك، وللأسف، قليلون من النخبة المثقفة من أصبح يغريهم الانخراط في فعل الدفع بالفهم.
ما يهم هو طرح سؤال: لماذا وصلنا إلى لحظة الهزة؟
الجواب، اليوم، عند الدولة، أولا. ثم عند من يقود الحكومة والمجالس المنتخبة ويتنفع منها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن طرح مشروع الدولة الاجتماعية يشبه، إلى حد كبير، التأسيس للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، في بداية الألفية.
تحولت المبادرة إلى نوع من أنواع الريع، دون أن تحقق أهدافها لصالح الفئات الهشة. كما يتجه، اليوم، شعار الدولة الاجتماعية، إلى أن يصبح شكلا من أشكال حصد الغنائم لصالح أباطرة انتهاز الفرص على حساب من يحتاجها.
وأول ما يؤكد أن المنطلقات تظهر أنها خاطئة، وتتجه بنا نحو أزمات أكثر تعقيدا، يكفي تأمل تنزيل أحد فروع أهداف الدولة الاجتماعية، وهو تعميم التأمين الإجباري الأساسي عن المرض (التغطية الصحية). فرع يظهر أن ثماره سوف يجينها فقط، من جهزوا - بضربة استباقية - أنفسهم، لحصد غنائمه.
إذ أنه عوض أن تستفيد مؤسسات الصحة العمومية من هذا التحول، بغرض تطوير خدماتها ومرافقها، سوف تستفيد مصحات خاصة بعينها من بئر أموال عمومية لا يجف. أما المواطن البسيط، الذي كان يستفيد من الخدمات الصحية المجانية، رغم ضعفها، مجانا، بفضل نظام "راميد"، فعليه، اليوم، أن يؤدي، ثم ينتظر التعويض، الذي بدأ يظهر على أنه هزيل.
هذا فرع من الفروع الذي نبت من وسط شجرة الدولة الاجتماعية. وقس على ذلك بقية الفروع في دعم التمدرس والتشغيل والسكن... أما حاجيات البشر في الترفيه والثقافة، فمجرد كماليات لم تعد حتى الطبقات المتوسطة وما فوقها بقليل، تستطيع تأمين تكاليفها.
أستغرب كيف يتحدث أخنوش عن تحقيق أهداف الدولة الاجتماعية. ألا يطالع الرجل تقارير المندوبية السامية للتخطيط وبنك المغرب والمجلس الاقتصادي والاجتماعي؟ هذه مؤسسات رسمية، وإن كانت أرقامها تفضح، لكنها مع ذلك "كتضرب وتقيس"؛ لأن الواقع مخيف أكثر مما هو ظاهر على السطح.
ألم يخطر في بال رئيس الحكومة، وهو يعتلي منصة مهرجان شبيبته، أن أكثر من 4 ملايين شاب وشابة خارج دائرة الشغل والتعليم والتكوين ولا يمارسون أي نشاط؟
كيف غاب عن المستثمر رقم واحد في المحروقات والغاز وما جوارهما كل مؤشرات الأزمة الحاصلة في المغرب، بفعل الارتفاعات المهولة في أسعار كل المواد الاستهلاكية وتضخم تكاليف التعليم والنقل والسكن؟
أحاول أن أفهم معه من أين له أن يعالج معضلة الشغل، وحكومته فشلت في استقطاب الاستثمارات الأجنبية. بل ما استقطبته حكومة سعد الدين العثماني، التي اصطدمت بجائحة "كورونا"، يشكل، اليوم، أكثر من الضعف. والدليل على ذلك أن آخر التقارير الدولية المستقلة أسقطت المملكة من قائمة "طوب 10 الإفريقية" في هذا المجال، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المغرب مقبل على تظاهرات كبرى تفرض أن يكون مصدر جذب لرؤوس الأموال.
أما في ما يخص رؤوس الأموال الوطنية، فتلك حكاية أخرى وجب العودة إلى تفاصيلها في مقال منفصل يفضح البعض من المسكوت عنه.
حين كان أخنوش وشبيبته يرقصون على أنغام "مهبول أنا"، كانت قوات الأمن في الفنيدق والمضيق وبليونش، وعلى الخط الفاصل بين الوطن وترابه المحتل، تمارس دورا ليس من مسؤوليتها. وجدت القوات العمومية نفسها تؤدي مهمة التأطير والنصح والتوجيه.
من هو مكلف بتنزيل السياسات العمومية، خاصة منها الاجتماعية، مرتاح البال في سوس، ويتوهم أنه حقق كل شيء، والدولة تعالج اختلالات ما كلف به في الشمال؛ لأنه فعلا لم يحقق أي شيء. معادلة تدفع إلى طرح سؤال: ألم يحن الوقت لاستثمار هذا الفصل؟ و"كلها يفهمها كيف بغا".
في انتظار ذلك، لا نملك غير الترديد، مع شبيبة حزب أخنوش: "المهابيل هما حنا".