محمد زيتوني يكتب: الحكم الذاتي.. كأعلى مراحل التسوية السياسية

تيل كيل عربي

بقلم: محمد زيتوني

(1)

من أرقى وأنجح خيارات وحلول النزاعات الاقليمية التي وصلت إليها أنظمة الحكم ضمن القوانين والدساتير الدولية، للحد من الحروب والصراعات والتطاحنات العنيفة والهدامة ومن أجل السلم وتهدئة الأوضاع: خيار وحل الحكم الذاتي.

الحكم الذاتي هو مفهوم نظري عام وخيار تنظيمي يعني قدرة جماعة أو منطقة معينة على اتخاذ قراراتها وإدارة شؤونها المباشرة واليومية بنفسها، في إطار الضوابط القانونية والدستورية التي تهمها وتهم محيطها.

أما على مستوى السياقات والإطارات القانونية والسياسية، فتبني الحكم الذاتي يعني قدرة منطقة جغرافية أو مجموعة "عرقية "أو ثقافية معينة على إدارة شؤونها الاقتصادية والثقافية والإدارية المحلية، والتمكن من بعض السلطات السياسية دون الخضوع الكامل لسلطة الحكومة المركزية، ودون الانفصال عن الفضاء الوطني العام وسلطة الدولة الأكبر أو الدولة الأمة.

فالحكم الذاتي يمكن أن يتنوع في درجاته، من الاستقلال  النسبي (الحكم الذاتي الموسع) إلى مجرد السيطرة على بعض المجالات مثل التعليم، الصحة، أو الثقافة. ويعتبر الحكم الذاتي مطلبًا في بعض الأحيان للأقليات العرقية أو الثقافية التي تسعى للحفاظ على هويتها وحقوقها في إطار سيادة الدولة الأكبر.

وهناك عدة نزاعات إقليمية تم حلها أو تخفيف حدتها من خلال منح نظام الحكم الذاتي، حيث ساهم في إيجاد حلول وسط بين مطالب الاستقلال التام والانصهار داخل سلطة الحكومة المركزية.

ومن  أبرز هذه الأمثلة: إقليمي كاتالونيا والباسك في إسبانيا.

فهما المنطقتان اللتان يتمتعان بنظام الحكم الذاتي في إطار نظام مملكة إسبانيا، بعد فترة طويلة من الصراع، ولا سيما في حالة إقليم الباسك مع منظمة “إيتا” الانفصالية، المسلحة، حيث تم التوصل إلى ترتيبات للحكم الذاتي الواسع، فأصبح لهذه الأقاليم برلمانات خاصة بها وسلطات محلية في مجالات مثل التعليم والصحة وغيرها.

وإقليم جنوب تيرول، بشمال إيطاليا والذي تقطنه أقلية ناطقة بالألمانية. وبعد صراع طويل حول الهوية والثقافة، تم الاتفاق في عام 1972 على نظام حكم ذاتي موسع. مما مكن  منح الإقليم السيطرة على معظم مجالات الحياة المحلية، وهو ما أدى إلى إنهاء النزاعات العنيفة وتحقيق الاستقرار.

ثم أيرلندا الشمالية، حيث وصل الصراع  أو ما سمي بـ “الاضطرابات”،  والذي شهد تصعيدًا للعنف بين الطوائف البروتستانتية والكاثوليكية، إلى حين التوصل إلى اتفاقية “الجمعة العظيمة” عام 1998  والتي أدت إلى إنشاء نظام حكم ذاتي محلي في أيرلندا الشمالية، حيث تم توزيع السلطات بين الأحزاب المتنازعة. وهذا الاتفاق أسهم في إنهاء العنف بشكل نهائي.

وكذلك إقليم آتشيه في إندونيسيا، الذي كان منطقة تعاني من تمرد استمر لعقود ضد الحكومة الإندونيسية. وفي عام 2005، تم التوصل إلى اتفاق سلام منح الإقليم حكمًا ذاتيًا موسعًا بعد كارثة تسونامي، مما ساهم في إنهاء الصراع المسلح الطويل وتحقيق الاستقرار في المنطقة.

 بالإضافة إلى إقليم جرنلاندا Greenland الذي كان  يسعى للحصول على مزيد من الاستقلال عن الدنمارك، وقد تم التوصل إلى اتفاقات في العقود الأخيرة لمنح جرينلاند حكمًا ذاتيًا موسعًا، حيث تتمتع بسيطرة على الموارد الطبيعية والعديد من جوانب الإدارة الداخلية، على الرغم من بقائها رسميًا جزءًا من مملكة الدنمارك.

هذه الأمثلة تظهر كيف يمكن لخيار الحكم الذاتي أن يكون حلاً واقعيا وعمليًا لإنهاء النزاعات الإقليمية، من خلال تمكين المجتمعات المحلية من السيطرة على شؤونها وتحقيق نوع من التوازن بين الاستقلال التام والحفاظ على وحدة الدولة وضمان الاستقرار والسلم، كقاعدة لإنجاح التنمية والتقدم والازدهار.

وهناك العديد من الدراسات الأكاديمية الناجحة التي تناولت موضوع الحكم الذاتي من زوايا متعددة، بما في ذلك العلاقات الدولية، والعلوم السياسية، والقانون الدستوري، ودراسات الصراعات.

هذه الدراسات ساهمت في تعزيز فهم كيفية استخدام وتبني الحكم الذاتي كأداة لحل النزاعات وتعزيز الاستقرار السياسي. ويمكن الارتكاز على استخلاصات لبحوث غزيرة ومعمقة حول الموضوع. على المستوى الأكاديمي والجامعي ومراكز الدراسات والمؤسسات الدولية كالأمم المتحدة وغيرها التي عملت على الموضوع ومواضيع ذات الصلة.

وفي هذا الصدد، كذلك تقارير منسوبة للمنظمة العالمية حول الحكم الذاتي، حيث نشرت هذه الأخيرة العديد من الدراسات التي تناولت الحكم الذاتي كحل للنزاعات في المناطق المتنازع عليها، مثل الصحراء المغربية وتيمور الشرقية. وهذه التقارير تقدم تحليلات حول كيفية استخدام الحكم الذاتي كأداة ضمن القانون الدولي لتحقيق السلام والتنمية.

وتعتبر مسألة الصحراء المغربية وليدة الحقبة الاستعمارية وفترة الحرب الباردة  بين المعسكرين الشرقي والغربي، وقد حاول المغرب بكل مكوناته السياسية ،التفاعل مع مسألة الصحراء وإيجاد حلول لها منذ المسيرة الخضراء سنة 1975.

وبعد صراع عسكري بين المغرب وانفصالييي البوليساريو المحتضنين والمدعومين من الجزائر، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار سنة 1991 واقتراح تنظيم استفتاء حول الجهات الجنوبية  للمغرب تحت رعاية الامم المتحدة.

إلا أن هذا المشروع اصطدم بإشكالية الأهلية والعضوية ومن له الحق في المشاركة في عملية الاستفتاء.

إلى غاية  شهر أبريل سنة 2007، حيث تقدم المغرب  بمقترح منح أقاليم المغرب الجنوبية، نظام حكم ذاتي في إطار السيادة المغربية، كقاعدة لطي الملف.

ويحسب للمغرب أنه منذ تقدمه باقتراح الحكم الذاتي، استطاع جلب العديد من المساندات الدولية أهمها المواقف المؤيدة من عدة دول، آخرها التأييد الإسباني والفرنسي، الدولتين الاكثر إلماما والأكثر معرفة بخبايا ملف الصحراء، خاصة الجمهورية الفرنسية، الدولة العضو الدائم بمجلس الأمن.

(يتبع …)