"صدمنا حين حل إبراهيم غالي بتونس. لم نخبر ولم نتوقع أن يستقبل الرئيس التونسي الرجل. حضرتُ مراسيم الاستقبال الرسمي بالمطار. بمجرد ظهوره وهو ينزل درج طائرة الخطوط الجزائرية، تبادل الصحافييون الحاضرون في ما بينهم نظرات الاستغراب. عندنا قناعة بأن اختيارات السياسات الخارجية لقيس سعيد تضر بتونس".
المشهد هنا، يعود للحظة استضافة البلد لقمة "تيكاد" شهر غشت من العام 2022، وقاطعها المغرب بعدما تمت دعوة زعيم جبهة "البوليساريو" الانفصالية بصفته "رئيس دولة"، رغم أن الطرف الرئيس في القمة، وهو اليابان، تبرأ من حضوره وأكدت الدولة في بلاغ رسمي عدم توجيه أي دعوة له.
والكلمات التي تصفه، تعود لزميل صحافي تونسي، التقيته هنا بعاصمة إثيوبيا، ومن جملة ما سألته عنه، موقف النخبة والمواطن عندهم، من التحولات التي طرأت على السياسة الخارجية لوطنه، خاصة تجاه المغرب.
وكان جوابه: "كل ما يحدث هو بضغط من الجزائر. رغم أننا لا نستفيد من تبعات هذا الضغط، سواء كدولة أو شعب".
التقيت هنا في أديس أبابا بعدد من الصحفيات والصحافيين، من عشرات الدول الإفريقية، لا يرون المغرب كما نراه نحن، منهم ومنهن من سبق لهم زيارته، وآخرون يتمنون ذلك، وما يجمعون عليه، هو أن المملكة بالنسبة إليهم تقود القارة ككل نحو مستقبل أفضل، السيادة فيه لأبنائها وبناتها، وأوليته ضمان الاستقرار والأمن دون تفريط في التنمية.
خلال جلسة عمل جمعتنا لتأسيس شبكة تضم صحفيين أفارقة، الغرض منها تغطية وتناول مواضيع مشاريع البنى التحتية وإشكاليات الماء والطاقة، بادرت زميلة من الكوت ديفوار بالحديث عن المغرب بالقول: "عندكم الكثير لتتواصلوا بشأنه، وحققتم تقدما يمكن أن يكون ملهما لعدد من الشعوب والدول الإفريقية".
في المقابل، تلاحظ الصحفية على المغرب، استمرار حضور مسؤوليه الباهت على مستوى مختلف التظاهرات الكبرى التي تحتضنها إفريقيا، سواء تلك التي تنظمها عدد من الدول، أو التي تعقد داخل قاعات مقر الاتحاد الإفريقي.
"حضور باهت!" الملاحظة نفسها سمعتها خلال الـ 24 ساعة الماضية أكثر من مرة، من طرف مسؤولين وخبراء وصحفيين. ولا أجد غير أن أطرح معهم ومعهن السؤال نفسه!
ورغم هذا الفاصل، أعتقد أن أشياء كثيرة تغيرت في علاقة المغرب مع جذوره وعمقه الإفريقي، وكان لقرار الملك محمد السادس العودة لشغل مقعده داخل الاتحاد الإفريقي أثر واسع ومؤثر، فضلا عن مئات المبادرات التي أطلقتها المملكة لأجل القارة.
مبادرات، آخرها "المبادرة الملكية الأطلسية" التي أصبحت تجد لها موقعا داخل نقاشات حاضر ومستقبل مشاريع البنيات التحتية والنقل واللوجستيك، خاصة لدى الدول التي تمتد على طول الشريط الأوسط للقارة من سواحل إريتيرا وجيبوتي، مرورا بإثيوبيا وجنوب السودان وتشاد والنيجر وبوركينا فاسو وصولا لشواطئ الأطلسي عند موريتانيا والسينغال.
ولا مانع هنا من البوح، بما قاله لي وزير النقل واللوجستيك الإثيوبي أليمو سيمي، ليلة يوم أمس الأحد، خلال حديث مقتضب، جمعني به على هامش افتتاح أشغال الدورة الثامنة من أسبوع برنامج تطوير البنية التحتية في إفريقيا (PIDA).
قال: "سأزور بلدكم الشهر القادم. أنا متطلع ومتحمس لهذا الموعد".
وأيضا من الضروري استحضار جزء من كلمة زيبوراه مبوني، رئيسة قسم الاتصالات والتواصل بوكالة الاتحاد الإفريقي للتنمية، أمام العشرات من الصحفيات والصحفيين الأفارقة، حين تحدثت عن استيائها من مواصلة منح الفرصة للإعلام الغربي ليتحدث عن إفريقيا ودولها من زاوية كل ما هو سيء.
أمام هذه الحسرة الصادرة عن مسؤولة إفريقية رفيعة هو:
من يوفر المادة الخام لهذا الإعلام والمستثمرين في استمرار خراب دول القارة وكبح تقدمها؟
والجواب هو:
استمرار وجود أنظمة تفكر بعقلية بائدة، قوامها، أن ضمان وهم استقرارها، قائم على زعزعة استقرار جيرانها.
أنظمة همها على مدار الساعة، زرع فتن تفتيت الدول وصرف ملايير الدولارات لأجل هذا الغرض، عوض توظيفها في انعتاق شعبها أولا من الهشاشة، وثانيا منح ما يمكن أن يتبقى لأجل قارة إفريقية قوية ومتكاملة، عمادها تحرر شعوبها من سطوة مخلفات الاستعمار الذي احتضن أفكار الانفصال ودعمها لتنتشر وتُفرض على أرض الواقع.
في إفريقيا اليوم، هناك توجهان لا ثلاث لهما، إما أن تختار عالم الواقع الذي تخدمه الأيادي التي تُشيد، أو خندق العالم الآخر المنفصل عن الحقيقية، المتشبث بأوهام الماضي، والمتوهم أن محاولات الهدم تخدم أطروحاته التي داستها ضرورات تحولات الزمن وما تجاوزه.