مبدأ "حق الشعوب في تقرير مصيرها".. من مناهضة الاستعمار إلى خدمة الهيمنة العالمية

تيل كيل عربي

بقلم: محمد زيتوني

كثيرة هي المفاهيم والاعتقادات التي تُزرع في عقول البشر، رغم افتقارها للمصداقية، المنطق، والصحة. بل إنها قد تناقض حقوق الأفراد والشعوب والأمم في السلام، السعادة، التقدم، والازدهار.

فما هي حقيقة “مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها”، الذي يتم تداوله في أعراف القانون الدولي ويعتبر قاعدة شرعية تعتمد عليها الحركات الانفصالية، وتستخدمه القوى الدولية العظمى للضغط على الدول المستضعفة بهدف التحكم بها؟

وهل هذا المبدأ يضمن فعلًا السلام بين الشعوب والأمم، أم أنه بالعكس يحفّز على الصراعات، و التناحر، و العنصرية، و الحروب، واللا توازن بين الدول؟

رغم تداول مفهوم “حق الشعوب في تقرير مصيرها” في الكتابات القانونية والفلسفة السياسية منذ القرن التاسع عشر، إلا أنه أخذ شكله القانوني الإلزامي والسياسي الأكثر نضجًا مع الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، الذي طرحه ضمن مبادئه الأربعة عشر أمام الكونغرس الأمريكي في يناير 1918، أي في بداية السنة التي انتهت فيها الحرب العالمية الأولى.

لقد لعب مفهوم “حق الشعوب في تقرير مصيرها” دورًا جوهريًا في بلورة القواعد التي اعتمدتها معاهدة فرساي (1919) بمدينة فرساي الفرنسية، والتي كان هدفها الضمني والحقيقي تفكيك الإمبراطوريتين النمساوية-المجرية والعثمانية (التركية)، أي الإمبراطوريات المنهزمة في الحرب العالمية الأولى. ولم يكن الهدف، كما تم الترويج له، خلق شروط تثبيت السلام الدائم الذي تبنته عصبة الأمم.

بالمحصلة، حصل العكس، حيث تعتبر معاهدة فرساي أحد أسباب صعود النزعات القومية الأوروبية المتطرفة والحرب العالمية الثانية، التي خلفت عشرات الملايين من القتلى ودمارًا لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.

في سياق آخر لا يقل درامية وبشاعة عن الحرب، تم اعتماد نفس المبدأ (أي حق الشعوب في تقرير مصيرها) لتأسيس الحركة الصهيونية، حيث تم الإعلان عنها رسميًا في مؤتمر بال بسويسرا سنة 1898. و طالبت الحركة بحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره وبناء دولته على أرض فلسطين، رغم أن اليهود كانوا يشكلون أقلية صغيرة هناك.

ولا يخفى على أحد ما ترتب على ذلك من تقتيل، ووحشية، و تشريد لشعب كامل، و حروب وصراعات لا تنتهي، ومستقبل مجهول يهدد السلام العالمي.

ومن أكثر المفارقات الجيوسياسية، العلاقات المغربية الجزائرية.

فعلى الرغم مما يجمع البلدين والشعبين من تاريخ، و جغرافيا، و دين، و مذهب، ولغة، وسكان، إلا أن التوترات مستمرة منذ عقود. هذه التوترات مرتبطة بدور البلدين الطليعي في إفريقيا، حيث تتبنى الجزائر نظرية “تصفية الاستعمار” وحق الشعوب في تقرير مصيرها. بناءً على ذلك، تدعم جبهة البوليساريو الانفصالية، التي لا تتوفر بتاتًا على الشروط المطلوبة للتمتع بهذا الحق في القانون الدولي (شعب واحد، لغة، جغرافيا). فجهة الصحراء، مثل باقي جهات المغرب، تشترك مع باقي المناطق في التاريخ، و الدين، و المذهب، واللغة. والنتيجة: صراعات، و مناوشات، و إغلاق للحدود ، تمخض عنه شلل في التبادل التجاري، وإعاقة التعاون الاقتصادي وبناء المغرب الكبير المنشود.

وعلى سبيل المثال، نجد إقليم كتالونيا في إسبانيا، الذي يملك مقومات عديدة (تقدم صناعي، و فلاحة متطورة، و لغة علمية حية، و شعب متميز، ورموانئ، و ثقافة، و فنون، و جامعات). ورغم كل هذه المؤهلات، و وجود الإقليم في دولة ديمقراطية كإسبانيا، التي بدورها هي جزء من الاتحاد الأوروبي، فإن الانفصاليين ما زالوا يجدون صعوبة بالغة في تحقيق أهدافهم.

إن المتتبع النبيه لأجندة “الفوضى الخلاقة” (Creative Chaos) وتدخل القوى الكبرى في كيانات الدول الوطنية، كما عبرت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، يدرك أن الولايات المتحدة عازمة على نشر" الديمقراطية "عبر مشروع “الشرق الأوسط الجديد”.

جاء ذلك ضمن مقابلة أجرتها مع واشنطن بوست عام 2005، حيث أكدت أن الفوضى الخلاقة تشمل التركيز على “حق الشعوب في تقرير مصيرها” وحقوق الأقليات الإثنية. مما لا يدع مجالًا للشك أن الهدف الأساسي من "تقرير المصير" هو تفكيك الكيانات الوطنية، و تقسيم المُقسَّم، وتجزيء المُجزَّأ، للهيمنة الكاملة على الاقتصاد العالمي وخيرات الشعوب.