تحمل الأمثال الشعبية المغربية الكثير من الحكم التي يمكن أن تُلخص العديد من المواقف واستخلاص الدروس من الحياة وفهمها. وأحدها، اليوم، يعبر عن حالنا الذي وصل حدا غريبا من التناقضات والتطبيع مع العيش داخل دوامتها، دون أي إشارة نحو إمكانية أن ننعتق من بطش المتحكمين فيها.
لكم أن تتخيلوا فقط مسؤولا حكوميا في أوروبا أو أمريكا أو إحدى الدول الديمقراطية بشرق آسيا، يعتلي منصة المؤسسات التشريعية، ويدافع عن فوزه بصفقة، شروط وظروف حسمها تمنحه صفتي الخصم والحكم!
هكذا، خرج علينا رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، يتحدث باطمئنان صادم، أمام البرلمانيين، وهو على يقين أن كلامه سيمر تحت القبة، دون حسيب ولا رقيب، باستثناء قلة قليلة تواصل اقتراف محاولات الممانعة، وإن كانت أصواتها مستهلكة؛ لأنها كانت، بالأمس القريب، شريكة له في أشياء كثيرة، بل صمتت تجاه ما يشبه الصفقة محط الجدل، بحجة "المصالح الوطنية" و"الحفاظ على التوافقات السياسية".
بل منها وإن في الظاهر تسوق لمعارضة "شرسة" ضد أخنوش، تخرج لتُنفس عنه كربته، وتمنحه هدايا تشتيت التركيز على ما هو أهم. دور يتقنه رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله ابن كيران بحرفية عالية، وخرجات دائما ما تخدم رئيس الحكومة الحالي.
وبالعودة إلى الأهم، لا يمكن، بأي شكل من الأشكال، وإن لجأت إلى كل المسهلات، هضم مقادير تمرير صفقة تحلية مياه البحر لشركة أخنوش دون غيره.
خاصة وأن أصواتا خبرت العمل الحكومي؛ من بينها الوزير الأسبق، إدريس الأزمي الإدريسي، تحدثت عما يتجاوز حدود الفوز بالصفقة، بل تهيئة كل ما يمكن لتستغل غنائمها.
وقال الأزمي، في هذا السياق، إن "صفقة تحلية المياه التي يشرف عليها المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، ورئيس مجلس إدارته هو رئيس الحكومة، تثير تساؤلات حول مدى توافقها مع الفصل 89 من الدستور، الذي ينص، بوضوح، على أن الإدارة تخضع لسلطة رئيس الحكومة، وهو الذي يمارس الوصاية والإشراف على المؤسسات والمقاولات العمومية".
بل ذهب إلى حد الكشف عن معطيات تفيد بوجود تحضير مسبق لتكون الاستفادة مضاعفة، وذلك بإقحام تعديل على مشروع قانون مالية 2025.
وأوضح الأزمي، في هذا الصدد، أنه "في قانون المالية، تم إقحام تعديل في مجلس المستشارين يتعلق بالضريبة على الشركات، ينص على أن التي أبرمت اتفاقية استثمار مع الدولة يتجاوز مليار ونصف، لن تخضع للضريبة بنسبة 35 في المائة، بل بنسبة 20 في المائة فقط".
وتابع أن "هناك تدقيقا آخر ينص على أنه للاستفادة من هذا التعديل، يفرض على الشركة أن تكون قد تأسست، ابتداء من فاتح يناير 2023؛ مما يعني أن الشركات التي تأسست قبل هذا التاريخ لا تشملها هذه الفائدة".
وهنا، يشدد الوزير الأسبق على أن هذا التعديل "تم لتستفيد شركة أخنوش من هذا التخفيض الضريبي".
ما جاء على لسان الأزمي يدفع إلى طرح سؤالين جوهريين؛ هما:
هل الفوز بالصفقة والتعديل صدفة فقط؟!
وهل كانت لتستفيد منه شركة أخرى، إن هي فازت بالصفقة، كما سوف تستفيد منه شركة أخنوش؟!
في انتظار امتلاك أحدهم شجاعة الخروج للإجابة عنهما، نعود إلى الأمثال الشعبية التي تركها لنا الأجداد؛ لأن واحدا منها، كما قلت سابقا، أصدق تعبيرا عما نعيشه، خاصة وأن صفقة تحلية مياه البحر ليست الوحيدة المعنية بطرح التساؤلات المزعجة، بل هناك صفقات أخرى تحتاج إلى نفس نهج التشكيك في خلفياتها؛ من بينها، على سبيل الذكر لا الحصر، واحدة تهم استيراد الأدوية من الخارج، وتلك المرتبطة بسوق اللحوم الحمراء...
يقول المثل: "لي ما عجبو حال.. يشرب البحر".
لكن، وللأسف، هذه المرة لن يكون الشرب ونحن مكرهين مجانا؛ لأننا يجب أن نؤدي إتاوة تحلية مياهه مضاعفة ثلاث مرات، لفائدة الأرصدة البنكية لرجل الأعمال ورئيس الحكومة، عزيز أخنوش!