خرجت توصيات تعديل بعض مواد مدونة الأسرة لتؤكد أنه، بالقدر الذي أصبح النقاش العمومي متاحا للجميع، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا أمر صحي جدا لصالح مجتمع يجب أن يبقى متحركا، نجد، في المقابل، أن أغلب التفاعلات، حتى تلك الصادرة عمن يعتبرون من النخبة، مرعبة إلى حد ما.
القانون مهم؛ فهو الحد الفاصل ما بين الاستقرار والفوضى، لكن روحه أهم، وتتجلى هنا في التربية، أن يخرج المواطن من كماشة النظرة الذاتية السطحية التي فُرضت عليه، بسبب ظروف النشأة، نحو التطلع، على الأقل، إلى مساهمته في بناء مجتمع متماسك محوره الأسرة المتماسكة التي يسود أوساطها العدل والمساواة.
هل ستغير تعديلات مواد مدونة الأسرة من واقعها؟
إلى أي حد يمكن أن تعالج الأعطاب المجتعية التي تراكمت بيننا لعقود؟
وكيف يمكن محو القناعات السطحية التي ترسخت في أذهان الفرد المغربي، كان ذكرا أم أنثى؟
لمن قررؤا بلاغ الديوان الملكي الذي أعقب جلسة العمل برئاسة الملك محمد السادس، بتمعن، يفترض فيهم الوقوف طويلا أمام المضامين التي رافقت ما يهم تعديلات مواد مدونة الأسرة.
أعتقد أن الامتحان الحقيقي يكمن هناك. وإن انخرطت كل الفعاليات في تنزيل مضامينها، يمكن لنا البدء في الإجابة عن الأسئلة الثلاث التي طرحتها، كما يمكن أن تُولد أسئلة أخرى تفرز إجابات إضافية لصالح هذا المجتمع، الذي يعاني من أعطاب بنيوية مركبة، بل تحمل معها تناقضات حتى في تصريف القناعات، يمكن أن تصيب أي باحث في علوم الاجتماع بالصداع النصفي المزمن.
مما جاء في بلاغ الديوان الملكي؛ دعوة "المجلس العلمي الأعلى إلى مواصلة التفكير واعتماد الاجتهاد البناء في موضوع الأسرة، عبر إحداث إطار مناسب ضمن هيكلته، لتعميق البحث في الإشكالات الفقهية التي تطرحها التطورات المحيطة بالأسرة المغربية، وما تتطلبه من أجوبة تجديدية تُساير متطلبات العصر".
في هذه الفقرة، وردت عبارة الأسرة أكثر من مرة، مرتبطة بكل التحولات التي يمكن أن تطرأ، وفق أسس الاجتهاد الفقهي الذي اعتمده السلف في أمور الدين، منذ قرون، بغرض تحقيق متطلبات التحولات التي طرأت واستمرت.
وجاء في البلاغ، أيضا، أنه "لتوضيح المضامين الرئيسة لمراجعة مدونة الأسرة، كلف الملك رئيس الحكومة والوزراء بالتواصل مع الرأي العام، وإحاطته علما بمستجدات هذه المراجعة، والتي ستسهر الحكومة، داخل آجال معقولة، على حُسن بلورتها وصياغتها في مبادرة تشريعية، طبقا للأحكام الدستورية ذات الصلة".
فقرة شدد من خلالها الملك على ضرورة جعل تعديلات مدونة الأسرة من شؤون السلطة التنفيذية، رغم ما يمتعه به الدستور من سلطة دينية، بصفته أميرا للمؤمنين، يمكن أن يحسم بها أي تغيير يطرأ على تنظيم الشؤون الدينية للمغرب والمغاربة، بما لا يتعارض مع الأحكام الكبرى لشريعة الدولة ونهجها المذهبي.
اختار الملك، مرة أخرى، التنزيل السليم لمبدأ التأسيس لمستقبل فصل السلط.
وذكر بلاغ الديوان الملكي، في السياق ذاته، أنه "بخصوص المبادرة التشريعية لمراجعة مدونة الأسرة، وما سيليها من مناقشة وتصويت بمجلسي البرلمان، بالمرجعيات والمرتكزات التي ستؤطرها، والمتضمنة في الرسالة الملكية، ويتعلق الأمر بمبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام، النابعة من ديننا الإسلامي الحنيف، وكذا القيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب".
فقرة فتحت المجال أمام المؤسسة التشريعية لكي تلعب دورها في الرفع من منسوب النقاش، وعدم الاكتفاء بما سيُحمل إليها حرفيا. وهنا، يجب أن ينفض ممثلو الأمة الغبار عن ميكروفونات قبتي النواب والمستشارين، لتصدح بما يفوق خطابات الحسابات الضيقة، وملاسنات "شكون غادي يبان لسانو ماضي أكثر من الآخر؟"
هل ستنجح الحكومة ومعها البرلمان في ترجمة انتظارت الملك؟
المؤشرات الأولية مخيبة للآمال، خاصة الطريقة التي عقدت بها الحكومة الندوة التواصلية الأولى بشأن تعديلات مدونة الأسرة، يوم أمس الثلاثاء، بالرباط.
ندوة لم يسمح فيها بطرح سؤال صحفي واحد!
وفي انتظار ما ستجود به اجتهادت السلطتين التنفيذية والتشريعية، هناك أدوار أخرى يجب أن تلعبها كل فعاليات المجتمع، من جمعيات وهيئات ومؤسسات وجامعات ومراكز للدراسات.
وهذا الشق بدوره انتظار ملكي، عبر عنه بلاغ ديوانه بالتأكيد على ضرورة "إعداد برامج توعوية تُمكن المواطنات والمواطنين من الولوج إلى القانون، ومن استيعاب أكبر لحقوقهم وواجباتهم".
هذا الورش سوف تحدد مخرجاته مستقبل نمط وعيش المغاربة، والأسرة التي وصفها الملك بأنها "الخلية الأساسية للمجتمع".
أعتقد أن ما هو أهم، اليوم، من التركيز مع مواد قانونية لن تعالج، بالضرورة، الأعطاب التي تعاني منها الأسرة المغربية، هو منح الأخيرة ظروف وشروط التربية والنشأة السليمة.
أن تمنح ما يجعل المغربي يقطع مع صبغ حياته بالأسود القاتم، تشغله تبعات الطلاق قبل أن يتحمل مسؤولية الزواج، ويخاف من النفقة قبل أن يتأكد من أنه قادر على الإنجاب، وتشغل باله قيمتها عوض تخطيطه لمستقبل أفضل يهم أطفالا لا يتحملون مسؤولية القدوم بهم إلى الحياة، ويخاف من اقتسام إرث ثروة لا يمتلكها أصلا ومنزل لم يحز بعد وثائق امتلاكه...
أمام كل ما سبق، هناك حقيقة واحدة أنا متأكد منها ترافق هذا الورش المجتمعي؛ وهي أن الملك يتشاور مع الشعب بشأن مواد مدونة تريدها أعلى سلطة في البلاد لأجل الأسرة وليست لأجل الفرد. وما نعيشه، اليوم، أشبه باستفتاء شعبي يتم بطرق غير تقليدية.