معذرة عن هذه القصة ولكنها الحقيقة

هادي معزوز

تناهى إلى سمعه عبر موجات الراديو خبر سقوط المطر خلال الأسبوع المقبل. اختلطت لديه مشاعر البهجة بمشاعر الحزن.. مبتهج لأن السماء ستجود بما يجب أن تجود به.. حزين لأنه لا يملك قوت يومه فما بالك بالبذور التي لا يتوفرعليهااللهم بعض النزر القليل. لم يجد بدا من التوجه إلى أحد الأعيان يرجوه المساعدة، وككل أغنياء البلد فقد قبل مساعدته شريطة منحه جزءا من المحصول. ولما أذعن الفلاح بذلك وافق الرجل الثري على الفور فانحنى الرجل يقبل ظاهر وباطن  يده وكتفه متمنيا له الصحة والعافية وطول العمر. آه لو رآه أولاده على هذه الحالة وهو الكبير في أعينهم، كبير بشاربه الكث وجبروته ككل رجال البلد، كبير بإتقانه لعب دور الأب الشرقي الذي يأمُر ولا يُؤتمر.

رفع رأسه إلى الأعلى فلم يجد سوى شمس لافحة في عز فصل الشتاء وسماء زرقاء إلى حد التطرف في زرقتها.. فأي مطر من هذا الطقس الرهيب؟ وأي غيث من هذا الحموم السميم. لكن مذيع الرباط لا يكذب.. ثم توكل على الله ورمى البذور بعد تلاوته لما يحفظه من آيات قرآنية.. مرت أمام عينه الذابلة عديد الوجوه: الجد الذي توفي برصاصة فرنسي زمن الحماية دون أن يتلقى ولو ملكة شكر من السلطة، بل إن جنازته لم تلق ببطل أفنى حياته من أجل الوطن. تذكر أيضا الأب الذي وافاه الأجل عندما كان في السوق يتفاوض حول ثمن عجل متوسط الحجم ليسقط فجأة رغم أنه لم يكن به سقم.  وتذكر الأم التي كانت تفرح حينما يهطل المطر فتجود قريرتها بما تيسر من القصص حول الأبطال الذين انتهوا فانتهى معهم زمن البطولات..تشكر الله على كرمه وكرم المطر، إذ بفضل سقوطه يوفرون مؤونة الموسم وبسبب انحباسه يسود الغم والنكد من منزلة سعد الذابح إلى منزلة سعد السعود مرورا بمنزلة سعد البولع وسعد الخبايا.. تلك كانت حالهم وهم أبناء الطبيعة والتراب والروث وحكايات الجدات.. ستنتهي الأم حينما كانت تغزل الصوف وتغني لحنا حزينا شجيا الله وحده يعلم سببه.. لو كان قارئا نهما للأدب الانجليزي لاعترف بأن عائلته شكسبيرية بامتياز. على من سيأتي الدور بعد هؤلاء الأموات؟

ثم حل أسبوع المطر. السماء تعتصر كأنها أم لحظة مخاضها.. الكل يستغفر ويتلو ما يحفظه من الفاتحة والمعوذتين.. ثم استمرت السماء على هذا الحال إلى أن انكشفت غيومها فعادت الزرقة مرة أخرى. بكت زوجته وابنه الصغير.. شعر هو الآخر بالدموع تحت مقلتيه لكن الرجال لا يبكون مهما كانت الأرزاء. نذب حظهالتعيس.. لعن الرباط ومذيع الرباط.. استدار نحو البيت الفخم الذي يتوسط البلد.. من أين سيرد دين البذور.. عم الهم والغم والحزن على الجميع بما فيهم ابنته الرضيعة التي لا تعرف على العالم شيئا.. ولما انقضى الأمل إذا بها تمطربغتة.. صرخ من شدة الفرح ثم ما لبث أن هرع نحو الأرض يلتمس ترابها الندي. يحمله بين يديه ثم يقبله. ويأخذ حفنة أخرى يمررها على وجهه وصدره العاري، لكن آه من السماء أحيانا. تحول المطر اللطيف إلى ماء جارف قادم من الأعلى.. سيفسد الماء البذور بعدما كان أملها. تخيل أنه يملك أجنحة عملاقة ستحمي الأرض من هذا السيل القادم من أقصى أقاصي السماء، لكن هل بإمكانه مجاراة الطبيعة ونظامها الذي يفوق توقعات مذيع الرباط؟ طبعا لا، هو يعلم هذا وأكثره رغم جهله بمشروع غاليليو الرامي إلى إمكان سيطرة الإنسان على الطبيعة التي باتت كتابا لغته الرياضيات..رفع أكفه إلى السماء وتضرع إلى الخالق الأوحد على إيقاف المطر الذي استحال وحشا لا يبقي ولا يذر.. استمر هطوله أكثر من السابق..سقط على الأرض فاختلطت ملابسه بالوحل.. بدأ ينبش في التراب بحثا عن البذور من أجل استعادتها، وبما أن كل شيء خرج على السيطرة فقد بدأ يتناولها بترابها وقد اختلط لديه الضحك بالبكاء بالأسى بالانصياع والإقدام والمغامرة والرغبة في الطيران.. مشهد أقل ما يقال عنه أن يفوق الدراما بكثير.. ثم جثا على ركبتيه ورفع رأسه إلى السماء مرة أخرى وبدأ يلعن..ويصرخ..ويبكي..ويضحك..ويهذي.. ويتمتم بعبارات غير مفهومة..ويتضرع..ويرجو..ويترجى..ويتمنى.. فعل كل ذلك والناس من حوله ينظرون.. لم يستطع أحد الاقتراب منه فقد أصيب بمس حسب زعمهم. حتى الكلاب الشرسة شعرت بالرعب من هذا الوحش الذي أصبح طينيا وكأنه يذكر الناس بالأصل الذي وجد منه..فجأة سقط مغشيا عليه.. خارت قواه فخار وجوده ولم يعد سوى ذكرى للعابرين.. ذات يوم سيطلب السيد الكبير زوجته أن توافيه إلى قصره المنيف.. وبعد التعزية المصطنعة سيقول لها:

- تعلمين أن زوجك المرحوم لازال يحمل في ذمته دينا لفائدتي.

ولما سألته بسذاجة عما هو المعمول، إذا به يرد دون مواربة:

- ستعوضين ثمن وقيمة البذور باشتغالك هنا..! وإلا فسيكون السجن مصيرك..

تأمل جسدها مليا خاصة الجانب الحميمي منه، ابتسم بخبث وأمر أن تأخذ حماما وترتدي ملابس جديدة ثم توافيه إلى مكتبه الذي يقع في أقصى الممر الطويل..

أذعنت بطبيعة الحال ثم خطرت ببالها فكرة. ابتسمت بحزن وتوجهت رفقة إحدى الخادمات نحو الحمام وفي رأسها تتضارب الأفكاربينما التردد سيد اللحظة..

انتهت