بقلم ناجي العماري
في ضوء التحديات العميقة التي تواجه النظام التعليمي المغربي، نجد أنفسنا محاصرين بتساؤلات لا تقتصر على كيفية الإصلاح فحسب، بل تتعداها إلى جدوى المحاولات السابقة وما إذا كانت قد أسفرت عن أي تحول حقيقي. إن التعليم في المغرب، رغم مرور عقود من الزمن، لا يزال مأسورًا بأساليب تقليدية تركز على الحفظ والتكرار، بينما تُغفل تمامًا الضرورة الملحة للتفكير النقدي والإبداع. وإذا كانت الجائحة قد أظهرت لنا إمكانيات جديدة، خاصة في مجال التعليم عن بُعد، فإنها في ذات الوقت كشفت عن هشاشة هذا النظام وأوجه قصوره. إذًا، أمام هذا الواقع، لا بد من إصلاح عميق لا يُحمل فيه التعليم على أسس قديمة، بل يُؤسس لمنظومة جديدة تستجيب لتحديات العصر.
الإشكالات العميقة
إن النظام التعليمي المغربي يعاني من مشاكل بنيوية تتعدى الفقر المادي لتطال الهيكلة الفكرية التي تحكمه. من أهم هذه المشاكل ضعف الرواتب التي يتلقاها المعلمون مقارنةً مع القطاعات الأخرى، ما يخلق نوعًا من العجز الاجتماعي والثقافي في صفوفهم. علاوة على ذلك، تعاني المؤسسات التعليمية من نقص حاد في التجهيزات الأساسية كالأدوات الرقمية والإنترنت، ما يعوق بصورة جذرية القدرة على التفاعل مع التغيرات التكنولوجية المعاصرة. والأنكى من ذلك، هو أن النظام التعليمي في المغرب يتسم بالجمود في مواجهة التحولات التي تشهدها بقية دول العالم في هذا المجال.
أين نحن؟
إن التقدم التكنولوجي والرقمي هو سمة العصر، ورغم أننا نقف في قلب هذا التحول، لا يزال النظام التعليمي في المغرب أسير أساليب التعليم التقليدي. فبينما أصبح الوصول إلى المعرفة أسهل من أي وقت مضى بفضل الإنترنت، لا يزال المعلمون في المغرب يتبعون طرقًا لا تشجع على التفكير النقدي أو التحليل العميق. فما نحتاجه، في جوهره، هو تحول في الوعي الاجتماعي والتربوي الذي يوجه العملية التعليمية نحو ممارسات تفاعلية تشرك الطلاب في صياغة معارفهم بدلاً من تلقّيها كحقائق جاهزة. هذا التغيير لا يتعلق بالأساليب فقط، بل هو تحول في بنية العقل الجماعي الذي يعتنق التعليم.
النموذج الفنلندي
إن النظر إلى تجارب دول أخرى، مثل فنلندا، يمثل دعوة لثورة تعليمية يمكن أن تلهمنا. لقد اختارت فنلندا، من خلال إصلاحات جذرية، أن تمنح المعلمين والمدارس مزيدًا من الحرية لتطوير مناهج التعليم وفقًا لاحتياجات الطلاب وطبيعة العصر. إذا تبنينا هذا النموذج في المغرب، سنتمكن من تحرير النظام التعليمي من القيود التي تمنعه من التطور، وسنسعى لتحويله من مجرد نقل معلومات إلى تجربة تعليمية تساهم في بناء الإنسان في أبعاده الشاملة.
الإنتقال من التعليم إلى التعلم
التعليم التقليدي في المغرب يُقاس غالبًا بالقدرة على الحفظ والاستظهار، ولكن ماذا عن القدرة على التحليل والنقد؟ نحن في حاجة إلى خلق نظام تعليمي يُمكّن الأفراد من اكتساب مهارات التفكير النقدي والتفاعل المستمر مع التحديات. فالتعليم ليس مجرد تراكم معلومات، بل هو عملية مستمرة من التعلم التفاعلي الذي يسمح للطلاب بأن يصبحوا فاعلين في بناء معارفهم. إن هذا التحول يتطلب إصلاحًا بنيويًا لا يقتصر على المواد الدراسية، بل يمتد ليشمل العقلية التي تقوم على تعزيز التفكير المستقل.
من الإصلاح البطيء إلى الثورة الرقمية في التعليم
ما نحتاجه في المغرب هو ثورة حقيقية في التعليم، ثورة تُعيد هيكلة البنية الفكرية والمادية للنظام التعليمي. يتطلب هذا الإصلاح استثمارًا في الأدوات الرقمية وتدريب المعلمين على كيفية دمج التكنولوجيا في فصولهم الدراسية بطريقة تُحفّز على التفكير النقدي والإبداع. ولا ينبغي أن تقتصر عملية التقييم على امتحانات تقليدية لا تقيس إلا قدرة الطلاب على الحفظ، بل يجب أن يتم تطوير أساليب تقييم تشجع الطلاب على التفكير التحليلي والنقدي.
نحو منظومة تعليم جديدة
إن التعليم، كما نراه، ليس مجرد وسيلة للنجاح الأكاديمي، بل أداة لتحرير العقل الجماعي، وتمكين الأفراد من التفاعل النقدي والإبداعي مع التحديات المستقبلية. إذا أراد المغرب أن يندمج في الثورة الرقمية، فلا بد له من الانطلاق من رؤية جديدة تربط التعليم بمفاهيم العصر وتحرر من القيود التقليدية. بالتالي، يتطلب الأمر إصلاحًا عميقًا، يبدأ بتطوير المنظومة التعليمية ككل، ويهدف إلى خلق جيل مبدع، قادر على الابتكار والمساهمة في بناء الأمة المغربية في مواجهة المتغيرات العالمية