"صوت الصمت".. حين توحّدت المدرجات لإسماع ما لا يُقال

تيل كيل عربي

بقلم الأستاذ المهدي الزوات، محام بهيئة الدار البيضاء، باحث ومسير سابق بنادي الوداد الرياضي

في مشهد غير مسبوق، قرّرت إلترات الوداد والرجاء مقاطعة ديربي البيضاء، أهم حدث رياضي في الأجندة الكروية الوطنية. لم يكن القرار عادياً، ولا الخلفيات سطحية. لأول مرة في التاريخ الحديث للكرة المغربية، توحّدت الفصائل الجماهيرية في موقف احتجاجي جماعي، هادئ لكنه مدوٍّ. “صوت الصمت” الذي خيّم على مدرجات مركب محمد الخامس، كان أقوى من هتاف الآلاف. لقد تحدثت الجماهير من خلال الغياب، وكان لغيابها معنى.

السبب المعلن وراء هذه المقاطعة كان شعوراً واسعاً بالحيف والإقصاء، بعد استبعاد الدار البيضاء من احتضان مباريات المنتخب الوطني في كأس إفريقيا المقبلة، وكذا من قائمة الملاعب الرئيسية التي ستستضيف مونديال 2030. كيف يُعقل أن تُقصى العاصمة الاقتصادية، بكل تاريخها الكروي وثقلها الجماهيري، من هذا الحدث العالمي؟ سؤال مشروع حملته الجماهير وجسدته بالمقاطعة.

لكن المفارقة الأكثر إيلاماً، والتي لم تمرّ على الجماهير مرور الكرام، هي أن هذا الديربي بالذات كان يُراهن عليه ليكون واجهة عرض للقدرات التنظيمية المغربية، خصوصاً وأنه أول لقاء يُلعب على أرضية مركب محمد الخامس بعد فترة طويلة من الإغلاق لأجل الإصلاحات. فقد كان من المُرتقب أن يحضر فوزي لقجع رفقة وفد من الفيفا والكاف من أجل التباهي بما تصنعه الجماهير البيضاوية من شغف وأهازيج وتيفوهات. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: كيف نريد أن تكون واجهة المغرب هي جماهير البيضاء، بينما في عمق القرار التنظيمي يتم تهميش هذه المدينة؟

الدافع الأعمق لهذا الغضب المنظم يتجاوز مباراة أو قراراً تقنياً. هو نتيجة تراكمات من التهميش والتضييق. فلطالما اشتكت هذه التنظيمات من حرمانها من التنقل لمساندة فرقها، بدعوى “أسباب أمنية” لا تُناقش ولا تُبرّر. لطالما اعتُبرت صوتاً مزعجاً، فتم تجاهلها، منعها، قمعها أحياناً. واليوم، حين اختارت الاحتجاج الراقي، عبر المقاطعة، لم يجد الجمهور البديل الذي تمت تعبئته لملء المدرجات والذي رغم أن عدده ناهز 15.000 متفرج (لم يجد) سبيلا لتعويض الألتراس، في مشهد رمزي عميق مفاده: لا أحد يمكنه أن يُعوّض صوت الدرب.

وما يزيد الشعور بالحيف، هو ما تعرّضت له عدد من المنشآت الرياضية التاريخية من تدمير كامل، لا إهمال فقط. قاعة الوداد لكرة السلة، التي كانت شاهدة على أمجاد النادي، تم هدمها. قاعة CMC، التي أنجبت أجيالاً من الرياضيين، أُزيلت من الخريطة. وملعب “فيليب”، أحد الرموز الراسخة في ذاكرة البيضاويين عموماً، لا يزال عالقاً في انتظار قرار منذ أكثر من عشرين سنة، وكأن الزمن توقف فيه. هذا ليس فقط تراجعاً في البنية التحتية، بل طمسٌ ممنهج لذاكرة جماعية، وإلغاء لصوت المدينة وتاريخها الرياضي

لقد كشفت المقاطعة عن وجه آخر لهذه الفصائل. وجه التنظيم والانضباط والتنسيق المشترك. الوداد والرجاء، بكل تاريخهما المتعارض، وجدا في هذه اللحظة وحدة نادرة، قائمة على وعي جماعي بأن الكرامة الجماهيرية لا لون لها. كان ذلك شكلاً جديداً من أشكال المقاومة المدنية، بعيداً عن العنف، قريباً من الفعل السياسي اللا مباشر. احتجاج جماعي بلا خطابات ولا شعارات، فقط “صوت الصمت” يدوّي في وجه قرارات لا تُستشار فيها الجماهير ولا تُحترم.

هنا، يُطرح السؤال الجوهري: إلى متى سنظل نتعامل مع هذه الفصائل باعتبارها خطراً يجب احتواؤه، لا طاقة مدنية يجب استيعابها؟ أليس من الأجدى أن ننقل النقاش من منطق المنع إلى منطق الحوار؟ من المقاربة الأمنية إلى المقاربة الاجتماعية والثقافية؟ هؤلاء ليسوا خصوماً للمؤسسات، بل شركاء في تشكيل الذاكرة الرياضية الجماعية. يتقنون التنظيم، ويملكون قدرة استثنائية على التعبئة والتأثير، في زمن صار فيه استقطاب الشباب مهمة شاقة.

إن اللحظة التي نعيشها الآن تُعد فرصة نادرة لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والجمهور، بين المدرجات والمؤسسات، بين السلطة والمجتمع. فتح قنوات حوار مؤسسي مع ممثلي هذه الفصائل لم يعد ترفاً، بل ضرورة. ليس من أجل التفاوض على نتائج المباريات، بل من أجل التأسيس لعقد جديد يُعترف فيه بدور الجمهور كفاعل أساسي في المشهد الرياضي الوطني، وكشريحة شبابية تعبّر وتحتج وتطمح للمشاركة، لا للتهميش.

في المقابل، فإن ما حصل بين “الوينرز” و” الغرين بويز” و "الإيغلز" من تنسيق وتفاهم، يجب ألا يُختزل في لحظة عابرة. بل يجب أن يُبنى عليه مسار جديد نحو إنهاء الشغب والعنف، ونشر ثقافة التعايش في الملاعب، وإعادة الاعتبار للمدرجات كمجال حضاري، لا كبؤرة توتر.

إن كرة القدم، كما نكرر دائماً، ليست فقط لعبة. هي مرآة لما نعيشه من تحولات اجتماعية، ومن تعبيرات صامتة عن أحلام جيل يريد أن يُسمع، أن يُحتَرم، وأن يُؤخذ على محمل الجد.

لقد قال الجمهور كلمته. بالصمت. والآن، جاء دور المؤسسات لتجيب: هل ستسمع؟