في كل خطوة تخطوها المرأة في شوارع المغرب، تُطرح أسئلة غير مرئية: هل هذا المكان آمن؟ هل وجودها مقبول؟ هل مظهرها "ملائم" للفضاء العام؟ أسئلة لا تنطق بها الشفاه، لكنها ترتسم في العيون، وتتحول إلى أحكام معلّقة في الهواء، أو نظرات تترصّد التفاصيل.
الفضاء العام، الذي يُفترض أن يكون ملكا للجميع، يتحول، بالنسبة للنساء، إلى مسرح يومي للتفاوض على الوجود، وعلى الحرية، وعلى الأمن. وبين نظرات المجتمع، ونصوص القانون، وتضاريس الثقافة، تجد المرأة نفسها عالقة بين الرغبة في الحياة والخوف من العبور.
في هذا التقرير، المستند إلى دراسة ميدانية نوعية أنجزتها مؤسسة "منصات" للأبحاث والدراسات الاجتماعية، تحت عنوان: "النساء، الفضاء العام والحريات الفردية"، لم يتم الاكتفاء بتشخيص الواقع، بل تم الغوص في عمق التمثلات الاجتماعية، والمواقف القانونية، والفروقات المجالية، لتُقدم صورة مركّبة عن علاقة النساء في المغرب بالفضاء العام: حضور هش، وحرية معلقة، وقانون غائب أو مغيب. فهل يُعاد تعريف الفضاء العام ليشمل المرأة فعليا؟ أم سيبقى مرآة للسلطة الذكورية، وامتدادا للرقابة الاجتماعية؟
مدن تحتضن النساء... وقرى تقمع وجودهن
وسجلت الدراسة أن الفضاء العام لا يتوزع بشكل متساو بين النساء والرجال؛ حيث تشير إلى أن الحضور النسائي في الأماكن العامة يظل مشروطا بالسياق المجالي.
وتتمتع النساء في المدن الكبرى؛ مثل الدار البيضاء والرباط، بهامش أوسع من القبول المجتمعي، مقارنة بنظيراتهن في المناطق القروية. فأكثر من 74 في المائة من المستجوبين في المدن أيّدوا ولوج النساء إلى فضاءات؛ مثل المقاهي، والحدائق، والفنادق، مقابل تراجع هذه النسبة إلى 66 في المائة في القرى؛ إذ تظل المعايير المحافظة أكثر صرامة، ويهيمن "الضبط الاجتماعي الجماعي" على السلوك والتمثلات.
ولا يعكس هذا التباين فقط الفوارق في البنية الاجتماعية، بل يعبر أيضا عن مدى تعقد العلاقة بين الفضاء العام والسلطة الرمزية والثقافية؛ حيث تتحول المدينة إلى "حقل تفاوضي" تفرض فيه النساء وجودهن بمرونة أكبر، بينما تتحول القرية إلى حقل ضيق، يضبط الحضور النسوي وفق معايير تقليدية صارمة.
المرأة والدين.. مفارقة العمل والصلاة
ولا يمكن الحديث عن حضور النساء في الفضاء العام دون التطرق إلى تأثير الدين، الذي يشكل إحدى أكثر المرجعيات فاعلية في تشكيل الرأي العام. فرغم قبول 78.8 في المائة من المستجوبين بعمل المرأة خارج المنزل، وهو مؤشر إيجابي نسبيا، فإن هذا الانفتاح يتراجع حين يتعلق الأمر بممارسات دينية في المجال العام؛ مثل الصلاة في المسجد.
وتفضل نسبة مهمة من المستجوبين (20 في المائة) أن تؤدي المرأة صلاتها داخل البيت؛ ما يكشف استمرار تقسيم جندري للأدوار حتى داخل الشعائر الدينية.
ويعكس هذا التناقض بين الانفتاح النسبي تجاه العمل والضبط الصارم تجاه الممارسة الدينية في الأماكن العامة اختلاط المفاهيم بين الدين كتجربة روحية، وبين الدين كأداة ضبط اجتماعي ترسم حدودا غير مرئية لحركة النساء.
الفضاء الآمن أم الخطر المجهول؟
وتظهر الدراسة هشاشة الإحساس بالأمان لدى النساء داخل الفضاء العام؛ حيث عبّرت نسبة كبيرة من المستجوبات عن مشاعر الخوف أو عدم الارتياح.
ووصفت 25 في المائة فقط منهن الفضاءات العامة بأنها "آمنة جدا"، في حين رأى 42 في المائة أنها "آمنة إلى حد ما"، والباقي تقاذفتهن مشاعر الارتياب والقلق؛ مما يعكس واقعا اجتماعيا يعتبر أن وجود المرأة في الشارع أمر غير مضمون.
والمقلق في هذه المعطيات أن هذا الإحساس لا يتوقف عند حدود الشعور، بل يمتد إلى سلوكيات ملموسة؛ حيث تتجنب الكثير من النساء الخروج ليلا، أو التواجد في أماكن معينة، خشية المضايقات أو الاعتداءات، وهو ما يفضي إلى "عزل ناعم" يُمارس بحقهن، دون قوانين أو أوامر رسمية.
جسد المرأة بين القبول والرقابة
وتمثل حرية تصرف المرأة في جسدها أحد أكثر المواضيع إثارة للانقسام في المجتمع المغربي. فبينما عبّر 63 في المائة من المستجوبين عن دعمهم لحرية المرأة في التصرف بجسدها داخل الفضاء الخاص (مثل المنزل)، تراجعت هذه النسبة إلى أقل من 19 في المائة عندما انتقل السؤال إلى المجال العام.
والملفت أن 54 في المائة رفضوا، بشكل قاطع، هذا النوع من الحرية خارج المنزل؛ ما يؤكد وجود تصور اجتماعي يعتبر الجسد الأنثوي "ملكا عاما" بمجرد خروجه من عتبة البيت.
وتعيدنا هذه الفجوة بين الفضاءين إلى سؤال فلسفي عميق: هل الجسد حرّ فقط حين لا يُرى؟ وهل تتحكم أعين المجتمع في شكل الحريات وحدودها؟ يبدو أن الجسد الأنثوي في المغرب لا يزال مشروطا بنظرة الآخر، في تقاطع مع البنى الذكورية التي تعتبر نفسها وصية على المرأة ومحددا لمساحات حركتها.
التحرش.. ظاهرة حضرية بصوت أنثوي مكتوم
وترصد الدراسة أن التحرش ظاهرة حاضرة بقوة، خاصة في المدن الكبرى؛ حيث أقرّت أكثر من 20 في المائة من النساء بتعرضهن للتحرش، مقارنة بنسبة أقل بكثير في القرى.
ويأخذ هذا العنف أشكالا متعددة، من المضايقات اللفظية إلى اللمس الجسدي؛ ما يعزز شعور النساء بأن المجال العام محفوف بالمخاطر.
ورغم ارتفاع نسب التحرش، فإن ردود الفعل القانونية والاجتماعية ظلت محدودة، إما بسبب ضعف التبليغ، أو الخوف من وصمة اجتماعية، أو الشك في فاعلية القانون.
وتسجل الدراسة أن الغالبية العظمى لا تعرف بنود القانون الجنائي التي تجرّم التحرش؛ ما يزيد من تفشي الظاهرة ويجعل من الشارع مكانا غير محايد تجاه النساء.
الشريعة وحقوق الإنسان.. مرجعيات متداخلة
وتُبرز الدراسة تذبذبا واضحا في مواقف المواطنين تجاه المرجعية التي يجب أن تضبط علاقة المرأة بالفضاء العام؛ إذ يرى 45 في المائة أن الحل يكمن في التوفيق بين مبادئ الشريعة الإسلامية ومنظومة حقوق الإنسان، بينما عبّر 28 في المائة عن اعتقادهم بأن الشريعة تُقيد حرية المرأة.
وفي المقابل، لم تتجاوز نسبة من يرون أن حقوق الإنسان وحدها هي السبيل إلى إنصاف النساء 7 في المائة في بعض المناطق.
ويعكس هذا الارتباك عدم الحسم المجتمعي في مرجعية التشريع، ويفتح الباب أمام تأويلات متعددة، تسمح، أحيانا، باستمرار أشكال غير رسمية من الإقصاء أو الرقابة الأخلاقية على النساء في المجال العام.
ثقافة قانونية غائبة.. بين الجهل والتردد
ورغم وجود قوانين تنص على حماية النساء من التحرش والعنف، فإن الدراسة تكشف ضعفا كبيرا في المعرفة بتلك النصوص، سواء على المستوى الذاتي أو الموضوعي. ففقط 13.8 في المائة من العينة تعرفوا على الفصل 503.1.1 من القانون الجنائي، المتعلق بالتحرش، قبل أن يُعرّفوا به ضمن الاستبيان.
ويؤشر ذلك إلى أن الفجوة ليست فقط في التشريع، بل في التثقيف والتواصل القانوني مع المواطنات والمواطنين.
من جهة أخرى، يعتبر 53 في المائة أن القوانين الحالية لا تكفي لضمان كرامة النساء وأمنهن داخل الفضاء العام، في حين أبدى أكثر من 22 في المائة فقط ثقة بها.
ويؤكد هذا التباين أن القانون لا ينجح إلا حين يُحوّل إلى ثقافة، وهو ما لم يتحقق بعد في السياق المغربي.
التمكين الفردي دون انخراط جماعي
ورغم أن نصف العينة تقريبا تؤيد إدخال تعديلات على مدونة الأسرة، فإن نسبة من يشاركون في أطر تنظيمية أو فعل جماعي للدفاع عن حقوق المرأة لا تتجاوز 7 في المائة. وتسلط هذه المفارقة الصارخة بين ارتفاع الوعي بالحقوق، والإحجام عن الانخراط الجماعي في الدفاع عنها، الضوء على أزمة أعمق: هشاشة المجتمع المدني، وخفوت ثقافة المشاركة.
الضعف المزدوج
وتؤكد الدراسة أن النساء في المغرب يواجهن هشاشة مزدوجة: من جهة، ترسانة قانونية عاجزة عن ضمان الحماية، ومن جهة أخرى، مجتمع تغيب فيه الدينامية الجماعية للضغط والتغيير.
واعتبر أكثر من 53 في المائة من المستجوبين القوانين الحالية غير كافية لضمان أمان النساء في المجال العام، بينما أبدى الربع فقط ثقة بها.
وتبدو النساء، إذًا، وكأنهن يخضن معارك فردية يومية من أجل البقاء في الفضاء العام، دون دعم منظم أو شبكات حماية قوية. ويبقى الصوت الحقوقي خافتا، محاصرا بثقل الأعراف وغياب التعبئة.