ربما لا يعرف الكثيرون، وخصوصا الأجيال الشابة، سي عبد العزيز مزيان بلفقيه، الذي توفي منذ 15 سنة. سي بلفقيه، كان وزيرا سابقا للفلاحة والتجهيز في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، ثم أصبح مستشارا له وللملك محمد السادس فيما بعد، وبشهادة العديدين من الذين اشتغلوا معه، كان إنساناً متواضعا، شغوفا بعمله وذا ذكاء كبير، ومسؤولا عن العديد من الأوراش الكبرى للمملكة (ميناء طنجة المتوسط، تهيئة ضفتي أبي رقراق، تقرير الخمسينية…) كما كان من الذين حاولوا إصلاح النظام التعليمي بالمغرب، ورحل وفي قلبه غصة إزاء المسار الذي أخذته المدرسة العمومية بالمغرب.
لكن ما يهمنا هنا، هو الإرث الحقيقي لسي بلفقيه، وهو توفير خزان من الأطر العليا داخل الإدارة المغربية، إذ كانت لديه قدرة كبيرة على اكتشاف الكفاءات، خصوصا من خريجي كبريات مدارس المهندسين، وإقناعهم بالانضمام للإدارة العمومية بدل الاشتغال في القطاع الخاص أو العمل في أوروبا. يكفي ذكر بعض الأسماء كعبد الوافي لفتيت، شكيب بنموسى، محمد مهيدية، كريم غلاب، محمد بوسعيد… والكثير من المسؤولين العموميين لفهم ثقل هذا الإرث وأهميته.
بعد وفاة مزيان بلفقيه فقد المغرب أهم "مدير للموارد البشرية" في العقود الأخيرة، وظل مكانه شاغرا للعب دور منقب عن الكفاءات لخدمة الدولة ونموذج لأجيال من كبار الموظفين. حاليا، هناك مشكل كبير على مستوى الوظيفة العليا بالمغرب، أو ما يسمى بـ"البنية التقنية" للدولة.
الإدارة العمومية لم تعد تغري الكفاءات المتميزة وخريجي المدارس العليا، الذين يفضلون المسارات المهنية المريحة والأفضل أجرة في القطاع الخاص، بدل المسارات الطويلة والرتيبة في خدمة الدولة (كاتب عام داخل وزارة، بمهام لا متناهية ومسؤولية جسيمة وخبرة كبيرة يتقاضى أقل من مرتب شاب خريج مدرسة فرنسية كبرى للمهندسين يبدأ حياته المهنية في القطاع الخاص). كما أن هذه الأطر العليا تخشى ثقافة الامتثال والمساطر المعقدة التي تشل الإدارة العامة وتدمر روح المبادرة، حتى لو كانت بحسن نية، خوفا من العقاب أو الإقصاء، فصار من الصعب إيجاد أطر عليا، تحتاج إليها الدولة حاليا.
هذا النقص يفسر اللجوء الممنهج والتلقائي إلى مكاتب الاستشارات الخاصة، ويفسر بالخصوص سر طول عمر وتناوب بعض كبار الموظفين على رأس الإدارات والمكاتب العامة، رغم تجاوزهم سن التقاعد. ندرة النخب القادرة على الجمع بين الكفاءة والثقة وروح الخدمة العامة تجبر الدولة على تدبير رصيدها من الكفاءات التي بدأت تشيخ، رغم الحاجة إلى دماء جديدة.
مما سيعقد الأمور أن القوى السياسية التي تعاقبت على الحكومة منذ 2011 ، والتي أعطاها الدستور الجديد صلاحيات كبيرة في التعيينات الإدارية، لم تتمكن من خلق مشتل جديد وقوي داخل الأطر الإدارية العليا. فحزب العدالة والتنمية، وباعتراف قيادييه، لم يكن يتوفر في صفوفه على كفاءات قادرة على الحكم والإدارة، كما أن النخب التكنوقراطية غير متوافقة ثقافيًا مع الحزب، أما بالنسبة إلى السي عزيز أخنوش، فإن أسلوب عمله، القائم على الولاء الشخصي والاختيار داخل حوارييه، هو على النقيض تمامًا من نموذج الخدمة والمصلحة العامة، ولن يترك أي إرث له داخل الإدارة العمومية، بعد انتهاء ولايته (ولاياته)، حيث سيختفي من معه بذهابه. هي فعلا أزمة داخل الإدارة العمومية.