بقلم: ايمان الرازي - أستاذة محاضرة بكلية علوم التربية
بقلوب يعتصرها الأسى، وبرؤوس تنحني إجلالًا لروحٍ نبيلةٍ أضاءت دروب الفن والصدق، ننعي إلى الوسط الفني والثقافي المغربي، وإلى كل من عرف محمد الشوبي، الإنسان قبل الفنان، رحيل هذا الشامخ فينا... محمد الشوبي، الذي لم يكن مجرد وجه مألوف على الخشبة أو الشاشة، بل كان تجسيدًا لما يمكن للفن أن يكونه حين يُمارَس بضمير، ويُعاش بشغف، ويُقدَّم بقلب نظيف وعقل نير.
لقد كان الشوبي واحدًا من أولئك القلائل الذين يجعلونك تؤمن أن للفن ضميرًا، وأن للصورة ذاكرة، وأن للكلمة نبضًا حين تخرج من قلب فنانٍ صادقٍ لم يرضَ أن يكون مجرد مؤدٍ، بل كان دائمًا صوتًا يعكس قضايا الناس، ويُجسد وجعهم وآمالهم، ويمنح للشخصيات التي تقمصها بعدًا إنسانيًا لا يُمحى. لم يكن التمثيل عنده مهنة فحسب، بل رسالة، اختار أن يبلغها بأمانة، رغم عواصف التهميش، ورغم الرياح المعاكسة التي كثيرًا ما تعصف بمسارات الشرفاء في هذا الوطن.
في المسرح، كما في التلفزيون والسينما، ترك محمد الشوبي أثرًا لا يُمحى، أثرًا محفورًا في ذاكرة جيل كامل من عشاق الفن الجاد. بملامحه الصادقة، وصوته الحنون، وحضوره الطاغي، استطاع أن يمنح للدراما المغربية نكهة إنسانية عميقة، وأن ينسج خيوطًا خفية بين المتفرج والشخصية، فيصدق الناس ما يقول، لأنهم يصدقون ما يُشبههم، وكان محمد الشوبي في كل أدواره يشبههم، يشبهنا... يشبه المغرب الحقيقي، المغرب العميق، المغرب الذي لا يُرى دائمًا على الشاشات.
لكن ما يضاعف ألم الفقد، أن محمد الشوبي لم يكن فقط فنانًا موهوبًا، بل كان إنسانًا نادر الطينة. طيب المعشر، لين الجانب، صادق القول، وفيًا لأصدقائه، نزيهًا في مواقفه، ناقدًا بشجاعة، ومتواضعًا بتلقائية. لم تغيّره الأضواء، ولم يركن إلى الزيف، ولم يهادن حين تكون المهادنة خيانة للكرامة أو تقزيمًا للفن.
بغيابه، يفقد المشهد الثقافي والفني أحد أعمدته الصامتة، وأحد أولئك الجنود الذين ظلوا في الصفوف الأمامية من أجل الدفاع عن فن راقٍ ملتزم، فن لا يُباع ولا يُشترى، فن يُعاش بالعرق والدمع والحب العميق لهذا الوطن. كم من شابٍ وجد في الشوبي قدوة، وكم من متفرج أعاد اكتشاف ذاته في ملامح دورٍ تقمصه بإبداع وصدق.
ننعاه إلى زملائه الفنانين، إلى من تقاسموا معه الخشبة، أو تقاطعوا معه في لقطة أو مشهد. ننعاه إلى النقاد الذين قد يختلفون حول الأدوار، لكنهم لم يختلفوا يومًا حول صدقه وإخلاصه. ننعاه إلى كل من يحب المغرب، لأن محمد الشوبي كان من أولئك الذين أحبوا هذا البلد على طريقتهم الخاصة: بالعمل، بالصوت، بالصورة، وبالتشبث بالمواقف النبيلة حتى حين يُصبح الثمن غاليًا.
رحل محمد الشوبي، لكنه لم يمت فينا. ستبقى صوره، وستعيش كلماته، وسيظل اسمه محفورًا في ذاكرة فنية مغربية لا تنسى من أحبها بحق، وأعطاها من عمره وروحه الكثير. سلامًا على روحك، أيها النبيل... وداعًا يا من علمتنا أن الفن التزام، وأن الجمال لا يكون زائفًا إلا حين نخلعه من معناه الإنساني.
نم قرير العين، أيها الجميل... لقد أديت رسالتك، وتركت لنا أثرًا يضيء الطريق.