في عصرٍ أصبحت فيه جودة النخبة هي المحدد الرئيسي لقدرة الدول على التحول الاقتصادي والاجتماعي، لا يزال المغرب يعاني من تركيبة نخبوية تستهلك أكثر مما تُنتج. وبحسب تقرير جودة النخب العالمية "Elite Quality Index 2025"، الصادر عن جامعة "St. Gallen" السويسرية، خلال شهر ماي الجاري، جاء المغرب في المرتبة الـ112 من أصل 151 دولة.
ويُفهم من ذلك، وفق قراءة تحليلية، أن الترتيب المتأخر لا يقتصر على رقم ضمن لائحة طويلة، بل يُعبّر عن أزمة بنيوية في بنية النخب المغربية، التي تتغذى من مراكز السلطة، لكنها لا تعيد إنتاج هذه السلطة في شكل قيمة تنموية أو اجتماعية.
النظرية المؤسّسة للمؤشر
وتعتمد نظرية النخبة في التنمية الاقتصادية (ETED) على فرضية مركزية مفادها أن جودة النخبة – وليس فقط وجودها – هي العامل الحاسم في توجيه مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية لأي بلد. فالنخب ليست مجموعات محايدة أو منعزلة، بل هي الفاعل الأساسي في إعادة توزيع الموارد، وصياغة القواعد، والتحكم في آليات خلق القيمة داخل الاقتصاد السياسي.
وفي هذا السياق، تُعرّف النخبة بوصفها "تلك المجموعات الضيقة والمنسقة التي تُدير النماذج الاقتصادية الأعلى ربحا في المجتمع"؛ أي أن لها قوة تنظيمية وقدرة على التأثير في صياغة السياسات العامة، واستثمار رأس المال المادي والبشري والمعرفي.
وتُفرق النظرية بين نموذجين لسلوك النخبة: "النخبة المُنتِجة Value-Creating Elites"، وهي التي تستخدم موقعها ونفوذها لخلق قيمة اقتصادية واجتماعية مستدامة، من خلال الابتكار، والاستثمار المنتج، والمنافسة العادلة، و"النخبة الريعية Rent-Seeking Elites"، وهي التي تستغل موقعها للسيطرة على الموارد دون مقابل إنتاجي حقيقي، من خلال الاحتكار، والامتيازات السياسية، والفساد، واستنزاف الدولة.
ويشكّل هذا التمييز جوهر مؤشر "EQx"، الذي لا يقيس فقط مدى النفوذ الذي تحوزه النخبة، بل ما إذا كانت تستخدم هذا النفوذ لإنتاج منافع جماعية أم لاستخلاص امتيازات على حساب المجتمع.
وبحسب النظرية، فإن خلق القيمة المستدامة لا يحدث في فراغ، بل يتطلب بيئة مؤسسية تنظم العلاقة بين النخب وبقية المجتمع، وتشجع التحول من "السلطة المُستَخدمة للريع" إلى "السلطة المُنتِجة للقيمة". ولذلك، فإن تحسين جودة النخبة هو بمثابة إصلاح بنيوي طويل الأمد يؤثر على مستويات الابتكار، والعدالة، والنمو، والاستقرار.
ما هو مؤشر "EQx"؟
ويقيس مؤشر جودة النخب العالمية، كل سنة، مدى قدرة النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كل دولة على خلق "قيمة مستدامة" للمجتمع. وبخلاف المؤشرات التقليدية التي تركز على الناتج المحلي أو التعليم أو الحكم الرشيد، يركّز "EQx" على "نوعية النخبة" ومدى مساهمتها في التنمية، من خلال تقييم 151 دولة، عبر 149 مؤشرا فرعيا، موزعة على 12 ركيزة أساسية، وتُجمع ضمن مؤشري "السلطة" و"القيمة".
والغاية من المؤشر ليست فقط قياس النفوذ، بل تحديد ما إذا كانت النخبة تستخدم هذا النفوذ لإنتاج منافع جماعية أو لاستخلاص الامتيازات بشكل غير منتج.
فشل السلطة والقيمة
ويعتمد المؤشر على مؤشرين فرعيين أساسيين؛ هما مؤشر "السلطة"، ومؤشر "القيمة".
وجاء المغرب في المركز الـ113 في المؤشر الأول، وفي المركز الـ105 في المؤشر الثاني؛ ما يعكس توازنا سلبيا مزدوجا؛ مما يمكن فهمه كمؤشر على أن النخب المغربية لا تحقق أداء فعّالا، لا من حيث تحكمها في أدوات القرار، ولا من حيث قدرتها على إنتاج منفعة جماعية من هذا التحكّم. وحتى حين تمتلك النخبة السلطة، فإنها لا تستخدمها في اتجاه إنتاجي أو ابتكاري. هذه النتيجة تكرّس فكرة أن النخبة المغربية تعمل بمنطق الامتياز أكثر من منطق القيمة، وهو ما يؤكده ضعفها في ركائز؛ مثل "التدمير الخلاق"، و"القيمة المُنتجة من رأس المال والعمالة".
انهيار داخل الركائز
وحسب التقرير، جاء ترتيب المغرب منخفضا في معظم الركائز الـ12 التي يقيسها التقرير. ففي ركيزة "السيطرة على الدولة" حل في المرتبة الـ112، وفي "السيطرة على البشر" حل في المرتبة الـ105؛ ما يعكس بنية نخبوية تتغذى من النفوذ السياسي دون مساءلة. وفي "الهيمنة الائتلافية" جاء في المرتبة الـ86، وفي "هيمنة الشركات" حصل على المرتبة الـ122؛ ما يشير إلى ضعف تنوع الاقتصاد وغياب المنافسة. أما في "الدخل غير المكتسب" فجاء في المرتبة الـ109؛ ما يعكس اعتمادا مُفرطا على مصادر دخل ريعية أو سلطوية. وفي "القيمة المُنتجة من رأس المال" جاء في المرتبة الـ111، وفي "قيمة العمل" حل في المرتبة الـ97؛ مما يبرز ضعف عائد الاستثمار البشري والاقتصادي على المجتمع. وفي "الإبداع والتجديد" حل في المرتبة 124؛ ما يعكس غياب نخبة تقود الابتكار. بينما في "الدخل المعطى" جاء في المرتبة الـ84، وفي "إعادة توزيع الدخل" احتل المرتبة الـ95، وهي مؤشرات تشير إلى محدودية العدالة في السياسات المالية.
بالمقابل، الركيزة الوحيدة التي حقق فيها المغرب ترتيبا متوسطا نسبيا كانت "السيطرة على الشركات العامة"، وجاء فيها في المرتبة الـ68، لكنه لا يزال بعيدا عن مستوى الدول التي تقودها نخب تحويلية.
نقطة ضوء
ورغم التراجع العام في معظم ركائز المؤشر، يُسجَّل للمغرب تحقيقه ترتيبا متوسطا نسبيا في ركيزة "السيطرة على الشركات العامة"؛ حيث جاء في المرتبة الـ68 من أصل 151 دولة، وهي نتيجة أفضل مقارنة بركيزتي "هيمنة الشركات" (المرتبة 122) و"السيطرة على الدولة" (المرتبة 112)؛ ما يشير إلى هامش من الانضباط المؤسسي في إدارة الأصول العمومية، على الأقل على مستوى السيطرة الرسمية.
وإذا ما أُحسن توظيف هذا الأداء النسبي، فيمكن أن يشكل نقطة انطلاق لإصلاحات أوسع، من خلال تعزيز الشفافية في إدارة المؤسسات العمومية، وتوسيع نطاق الحوكمة ليشمل النخبة الاقتصادية الفاعلة خارج الإطار الرسمي. فنجاح الدولة في ضبط أدواتها المؤسسية لا يجب أن يبقى معزولًا، بل ينبغي أن يُترجم إلى منظومة نخبوية قادرة على إنتاج القيمة بدلا من استنزافها.
مقارنة عربية مُربكة
وعند مقارنة ترتيب المغرب مع دول عربية أخرى، يتضح أن الأداء المغربي متدنٍ حتى ضمن بيئة إقليمية لا تشتهر بمرونة النخب أو قوتها المؤسساتية. فقطر جاءت في المرتبة السادسة عالميا، وهو صعود مثير للانتباه يعكس تحوّل نخبها إلى منتجة ومواكبة للابتكار. فيما احتلت الإمارات المرتبة الـ20، بفضل استثمارات في التكنولوجيا والحوكمة والاقتصاد الرقمي. بينما جاءت مصر، التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، في المرتبة الـ102، والجزائر في المرتبة الـ104، وتونس في المرتبة الـ91، متقدمة جميعها على المغرب، وذلك رغم ما تواجهه هذه الدول من تحديات هيكلية أو اقتصادية عميقة.
هذه المقارنات تطرح أسئلة جوهرية: لماذا تتراجع نخب المملكة بينما تتقدم نخب في دول تعتمد على الريع أو تعيش أزمات حادة؟ التقرير لا يجيب، لكنه يتيح لنا طرح هذا السؤال بقوة.
موقع هش في إفريقيا
ولا يقتصر التراجع المغربي على الحيز العربي، بل يمتد إلى المستوى الإفريقي. فدول مثل غانا جاءت في المرتبة الـ78، وإثيوبيا في المرتبة الـ96، ورواندا تجاوزت المملكة رغم محدودية مواردها.
ويُعزى هذا التفوق، بحسب المؤشر، إلى اعتماد هذه البلدان على نخب ذات قدرة تنظيمية أعلى، أو على أنظمة أكثر انفتاحا على التنافسية والإبداع المحلي، وهي عناصر تفتقر إليها البنية النخبوية في المغرب.
ويشير التقرير إلى أن بعض الدول الإفريقية باتت تمتلك نُخبا قادرة على خلق القيمة وتوزيعها بشكل أكثر كفاءة؛ ما يضع المغرب في موقع غير مريح ضمن قارته ومحيطه الاقتصادي.
بيئة بلا مؤسسات
ورغم الاستثمارات الكبيرة في مشاريع؛ مثل "نور" للطاقة الشمسية و"الهيدروجين الأخضر"، لم يسجل المغرب أداء مميزا ضمن "عائلة مؤشرات البيئة".
ويعود غياب التقدم في المؤشرات البيئية إلى أن هذه المشاريع لم تُدمج في بنية نخبوية مؤسسية، بل ظلت مبادرات معزولة عن البنية الاقتصادية والسياسية السائدة.
ويربط المؤشر بين جودة النخب والقدرة على تحويل المشاريع إلى منافع بيئية واقتصادية ملموسة، وهو ما لم يتحقق في الحالة المغربية.
تعليم بلا نخبة
وفيما يخص مؤشرات الابتكار والتعليم، يتضح غياب النخبة الأكاديمية والبحثية عن مشهد القيادة أو التأثير. ولا يظهر المغرب ضمن الدول التي تملك نخبا معرفية تؤثر في السياسات أو الاقتصاد. فالمؤشرات المتعلقة برأس المال البشري والابتكار التكنولوجي ضعيفة؛ مما يشي بغياب نخبة تقود التغيير في مجالات المعرفة والرقمنة، وهما حجر الزاوية في بناء دولة حديثة وقادرة على المنافسة.
دعوة لإصلاح جذري
ويدعو تقرير "EQx" إلى "إصلاح بنيوي موزون" يربط بين السياسات الاقتصادية وبناء نخب قادرة على خلق القيمة لا فقط توزيعها. فالدول التي حققت أداء جيدا لم تكتفِ بإصلاحات تقنية أو مالية، بل غيّرت البنية العميقة للنخبة نفسها. وفي المغرب، لا يزال هذا التحول مؤجلا؛ حيث يُعاد إنتاج نفس النخب السياسية والاقتصادية دون فتح المجال أمام كفاءات مستقلة أو قوى إنتاجية بديلة.
لكن التقرير، وإن كان يكتفي بالإشارة إلى الحاجة لإصلاح بنيوي، لا يُفصّل أدوات التنفيذ. وفي هذا السياق، يمكن اقتراح حزمة من الإجراءات الممكنة في الحالة المغربية؛ كإصلاح آليات التعيين في المؤسسات العمومية والسيادية، من خلال تقنين شروط الأهلية، وإخضاع المناصب العليا للمساءلة والتقييم بناء على الأداء، وليس الولاء السياسي أو القرابة، بالإضافة إلى تعزيز دور الجامعات ومراكز البحث العلمي في صنع القرار العمومي، عبر تمكين الكفاءات الأكاديمية من التأثير في السياسات الاقتصادية والتكنولوجية؛ ما من شأنه ربط المعرفة بالحوكمة، وكبح آليات الريع السياسي والاقتصادي، من خلال مراجعة نظم الامتيازات والعقود الكبرى، وضمان التنافسية والشفافية في ولوج السوق العمومي، فضلا عن توسيع قاعدة النخبة الاقتصادية من خلال تشجيع المقاولات الناشئة، واقتصاد المعرفة، واحتضان الكفاءات الجديدة القادمة من خارج دوائر النفوذ التقليدية، وربط المشاريع الكبرى (كالطاقة والهيدروجين الأخضر) بمؤسسات مجتمعية ومساءلة واضحة، تضمن أن تتحول هذه المبادرات إلى قاطرة تنموية لا إلى واجهات سياسية.
فمن دون هذه الإصلاحات، سيظل المغرب يُعيد إنتاج نخبة تستهلك السلطة ولا تُنتج قيمة، ويُخاطر بالبقاء في هوامش مؤشرات التنافسية والعدالة والإبداع.
نخب بلا أفق
وما يكشفه التقرير لا يتعلق فقط بتصنيف رقمي، بل بأزمة إنتاج نخب. فحين تُغلق دائرة السلطة على نفسها، ويُقصى التعدد والابتكار من المؤسسات، تصبح النخبة عبئًا على الدولة بدل أن تكون رافعة لها. المغرب لا يحتاج فقط إلى مشاريع أو تمويل أو إصلاح اقتصادي، بل إلى إعادة هيكلة جذريّة لآليات إنتاج النخب، ولمعايير تحديد من يُسمح له بأن يكون فاعلا في مستقبل البلاد.