"لبريكة" تُغلق.. حين ترسم موريتانيا حدودها مع الجزائر و"البوليساريو" بلغة السلاح

بشرى الردادي

في نقطة بعيدة من الشمال الشرقي الموريتاني؛ حيث تمتزج الرمال بظل الأسلاك الشائكة غير المرئية، قررت نواكشوط أن تكسر الصمت. يوم الخميس 22 ماي الجاري، لم يكن ما نقلته تقارير إعلامية موريتانية نقلا عن مصادر عسكرية حول قرار بإغلاق منطقة "لبريكة" وتحويلها إلى مجال عسكري مغلق مجرد إجراء أمني؛ بل بدا وكأنه خط ترسيم جديد، لا على الخرائط فقط، بل على توازنات النفوذ الإقليمي أيضا.

ونقلت وسائل إعلام محلية عن مصادر عسكرية أن هذا القرار يأتي في إطار خطة أمنية تهدف إلى مواجهة ما وصفته بـ"تصاعد الأنشطة غير القانونية" في المنطقة، بما في ذلك التهريب المنظم والتحركات المسلحة غير المرخصة.

وتُعد "لبريكة" من المناطق الحدودية الحساسة؛ حيث ظلت لسنوات تشهد نشاطا مكثفا للتهريب والتنقل غير النظامي بين الأراضي الموريتانية والجزائرية. وتستغل شبكات الجريمة المنظمة الطبيعة الجغرافية المفتوحة للمنطقة، إضافة إلى غياب الرقابة الدائمة، للقيام بعمليات عبور غير شرعية تشمل السلع والمركبات، وأحيانا الأسلحة.

ويقع المعبر على مسافة قريبة من مخيمات تندوف، التي تأوي عناصر من جبهة "البوليساريو" الانفصالية المدعومة من الجزائر؛ ما يضفي على القرار بُعدا استراتيجيا يُرجَّح أنه مرتبط، أيضا، بالتحولات الإقليمية الأخيرة وتزايد التوتر في منطقة الساحل والمغرب العربي. فـ"لبريكة" لطالما كانت منطقة رمادية، يفصلها عن الجزائر سوى امتدادات الرمال، ويربطها بها أكثر من الجغرافيا: ممرات التهريب، وحركية العابرين بلا وثائق، وتقاطعات بين المدني والعسكري، والمشروع وغير المشروع. في تلك البقعة، كانت التجارة غير النظامية تسير جنبا إلى جنب مع التحركات المسلحة، وكأنما السيادة هناك كانت مؤجلة، أو مؤقتة، تنتظر من يعيد كتابتها بحزم.

محليًا، يطرح القرار تحديات اقتصادية واجتماعية مباشرة على سكان المناطق الحدودية، الذين لطالما نسجوا اقتصادهم حول التجارة الموسمية والتنقل العابر. يجد هؤلاء أنفسهم، اليوم، أمام واقع أمني جديد يُقيّد حركتهم المعتادة، ويُعيد رسم العلاقة بين الدولة والمجتمع الحدودي، وقد لا ترافقه أي بُنى بديلة تعوّض الخسائر المحتملة.

الخطوة لم تكن مفاجئة تماما، لكنها تحمل من الرمزية أكثر مما يظهر. فموريتانيا، التي حافظت طويلا على موقع حذر في التعاطي مع الخلاف الإقليمي حول قضية الصحراء المغربية، تُقدّم الآن إشارات ميدانية إلى أنها تعيد ضبط قواعد الاشتباك؛ ليس بالاصطفاف السياسي، ولكن بتحصين مجالها الترابي من الانفلات المتسلل عبر الحدود.

ويأتي هذا التطور في وقت تكثف فيه المملكة المغربية جهودها لتأمين محيطها الإقليمي، وسط تحديات أمنية عابرة للحدود تشمل مناطق النفوذ الجزائري، وشبكات تهريب ترتبط في جزء منها بعناصر من الكيان الانفصالي.

في العمق، تُظهر الخطوة أن موريتانيا لم تعد تكتفي بالدور التقليدي كمراقب في نزاعات الجوار، بل تسعى إلى تثبيت حدود فعلية للسيادة، ولو بوسائل صلبة. وما بين خطوط البيانات العسكرية وهدير الصمت الذي تتقنه الدولة حين تتحدث دون أن تنطق، تتجلى معالم سياسة أمنية جديدة: سياسة تحرس التراب بالصمت لا بالشعارات، وتُغلق بوابات التهريب بالأسلاك، لا بالمفاوضات.

وتبقى الأسئلة مفتوحة: هل تمثل "لبريكة" بداية تحوّل في عقيدة نواكشوط الأمنية؟ أم أنها إجراء ظرفي في صيف إقليمي مشتعل؟ المؤكد أن الخريطة الموريتانية تُعاد صياغتها اليوم، لا بأقلام الدبلوماسيين، بل بقرارات ميدانية تنقش حضور الدولة في الرمال المتحركة.