النقاشات الدينية بمصر لا تتوقف ولا تنتهي، قوة وسائل الإعلام وكثرة الإقبال عليها ساهم في إذكاء هذه النقاشات وفتح باب التفاعل معها لعموم الناس، بعد أن كانت محصورة على المختصين والفاعلين.
من آخر ما ثار من جدل في هذا الباب، الاختلاف حول جواز الإفطار في رمضان بالنسبة للاعبي المنتخب مع بداية المونديال أو خلال الفترة الإعدادية ، بحكم أن العرس الكروي لن يبدأ إلا مع نهاية رمضان.
ذهب بعضهم إلى جواز ذلك والترخيص فيه بسبب السفر، وتشدد بعضهم في الموضوع، فقالوا ليس سفر هؤلاء من السفر الذي تباح معه الرخصة، الكرة في منطقهم ليست إلا لهوا ولعبا، فلا يجوز معها الترخص، بل حتى ذهب الحمق ببعضهم إلى المطالبة بتغيير موعد المونديال.
طبعا ليس هذا النقاش حول رخصة الفطر بجديد في أدبيات الفقه الإسلامي، كثير من الفقهاء لا يبيحون الفطر لكل مسافر، بل يشترطون في السفر أن يكون سفر طاعة، وما كان غير ذلك وجب فيه الصوم دون ترخص.
كل هذا في نظري من الاستدراك على القرآن وتشريع أحكام زائدة عليه، مع ما في هذا الاستدراك من تشديد على الناس وتضييق عليهم.
النص القرآني في الموضوع واضح وضوح الشمس في الترخيص للمسافر ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)، دون تحديد لنوع السفر أو أسبابه أو تقييده بأي قيد مما أضافه الفقهاء واستدركوا به على النص القرآني.
الغريب أنهم في مجال المعاملات حيث النص قابل للتأويل يتشددون بالظواهر والحروف، وحين يكون النص واضحا في مجال العبادات حيث الأصل أخذها على ظاهرها يؤولون ويخصصون ويقيدون من جيوبهم.
قد يقال إن منطق المقاصد يقتضي تقييد السفر بالمشقة، لكن عدم انضباط هذه العلة، وصعوبة التفريق بين سفر المشقة وغيره، وضبط هذه المشقة، جعل الوقوف مع ظاهر النص القرآني أمرا حتميا.
لهذا جاز للمسافر الصوم بغض النظر عن شكل السفر ونوعه والغرض منه، فضلا على أن السفر من أجل تمثيل الوطن في منافسة دولية مهمة نبيلة، وليس من قبيل اللهو واللعب كما لا زال تصور هؤلاء للرياضة، الرياضة اليوم تحرك السياسة والاقتصاد والاجتماع، بل تحرك مشاعر الانتماء والوطنية، وتوحد كثيرا من المختلفين في بلد واحد، وتدخل السعادة والفرحة على قلوب ملايين الناس، وهو ما يفتح باب الرخصة حتى على مذهب المستدركين على القرآن .
لم يكن من قبيل الصدفة أن يؤسس الله تعالى لقيمة اليسر ورفع العسر مباشرة بعد آيات الصيام وفرضه في شهر رمضان، فبعدما فرض الله على عباده صيام هذا الشهر الفضيل في قوله تعالى: ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ؛ ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) ، أتبع ذلك مباشرة برفع كل عسير، وتقرير كل يسير، فقال عز من قائل : ( يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر) ، إشارة منه إلى أن هذا التكليف؛ مع ما قد يعتريه من مشقة ومع كل ما فيه من فضل وما يتضمنه من إلزام، فلا يحق له أن يخرق القاعدة الكبرى، والأصل الذي لا يتخلف، وهو أن الدين جاء باليسر لا بالعسر، وبرفع الحرج لا بتقريره، وبأنه كلما وجدت المشقة إلا وغلب التيسير، هذا هو المبدأ السامي الذي لايقبل تجاوزه ولا التهاون معه حتى لو كان ذلك بنية التعبد والقرب من الله؛ هذه هي الشريعة التي كلها ميسرة لا عسر فيها ، هي الشريعة التي تشعر متبعها بالسهولة واليسر في تناول كل مناحي الحياة، هي من تجعل عيشه سلسا مرنا لا عوائق فيه ولا حواجز، هي الشريعة التي تورث في قلب متبعها سماحة ونقاء وصفاء دون كلفة أو تشديد أو تحرج، هي من ترفع عن الملتزم بها كل أغلال التنطع وقيود الغلو والتطرف.
هذا هو الدين الخالص، وهذه قيمه المؤسسة، وما اعتراه كما اعترى غيره من الأديان، من إنتاج أحكام فقهية موغلة في التشدد، تلزم الناس بما لايلزمهم، وتحرم عليهم ما أحل لهم، وتفرض عليهم ما رفع عنهم، ليس إلا تمثلات للدين، تمثلات محتكة بالواقع والبيئة والسياق والظروف المرافقة، ومرتبطة بمزاج الفقيه وطبيعته وميوله وحالته الذهنية وملكته الاستنباطية، وكل ذلك ليس من الدين، بل هو التدين، وشتان بين الدين والتدين.