... ربما تدعو مناسبة قطع العلاقات المغربية الإيرانية إلى مقاربات جديدة من نوع آخر، في الجزء الكبير منها تتصل بعلاقة العرب عموما بـ "العالم الفارسي"، وكيف ظل هذا المجال الجغرافي مبعث شكوك، حتى قبل قيام الثورة الإيرانية سنة 1979.
من الكتب الجميلة، التي تساعد على هذا الفهم، مذكرات الفيسلوف الفرنسي ميشيل فوكو، أثناء زيارته لطهران، إبان الثورة في مناسبتين اثنتين.
فقد شكلت إيران حالة استيهامية لمفكرين أوروبيين كثيرين، فإذا كانت إيران الشاه مفهومة نسبيا عند هؤلاء، فإن إيران الثورة وما بعدها تحولت إلى لغز، حاول الإعلام الغربي في تلك الفترة فك طلاسيمه.
في هذا الإطار، سيقوم المفكر الفرنسي ميشيل فوكو بزيارتين إلى طهران إبّان الثورة، وسينشر مشاهداته تلك في سلسلة مقالات تعبر عن دقة العين اللاقطة للمفكر، وهو يتحول إلى "ريبورتير".
يكتب فوكو: "لطالما سمعت محللين يتساءلون بجدية عن الشكل السياسي الذي في مقدوره أن يوفق مستقبلا بين إيران الأعماق وتحديثها الضروري: هل هو ملكية ليبرالية أم نظام برلماني، أم نظام رئاسي قوي؟ قدمت إلى إيران، وهذه الأسئلة تدور في ذهني، وطرحتها عشرين مرة، حصلت منها على عشرين إجابة، منها: "أن يتربع الملك على العرش ولا يحكم" .. و"أن نقيم حكما لفترة انتقالية قبل اتخاذ القرارات النهائية"، و"يجب على الشاه أن يتوارى جزئيا أو كليا"، و"ليس على آل بهلوي سوى مغادرة البلاد وأن لا يسمع عنهم أبدا". لكن، هناك دائما شعار فوق تلك الأجوبة لم أستطع تجاوزه هو "على كل حال نحن لا نريد هذا النظام". هذا القول يورده المفكر الفرنسي الذي وسم أجيالاً من المثقفين العرب وغير العرب، وأثر في منهجية البحث العلمي في الظواهر المعرفية والاجتماعية، وهو يتحدث عن زيارتين قام بهما إلى إيران، إبّان الثورة، وكانت النتيجة سلسلة من المقابلات، وعملاً ميدانياً، واقتراباً من الواقع الجديد الذي نشأ وقتها في الجمهورية الإسلامية، التي انعطفت 360 درجة من النظام الملكي ذي المنزع اللبرالي إلى عالم آخر، يتسم بهيمنة خريجي جامعة قم من الملالي، حيث السلطة الدينية هي أم السلط وحولها يدور كل شيء.
حين عاد فوكو إلى باريس كتب سلسلة مقالات، حرّرها دفعة واحدة، ونشرت هذه المادة الإعلامية التي تقدم رؤية أخرى للثورة الخمينية، بقلم مفكر وكاتب من عيار ما نعرفه عن فوكو. وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة، أنه حين يتحول المفكر إلى صحافي تكتمل المتعة. وهذا ما حدث بالضبط مع صاحب "أركيولوجيا المعرفة"، ففي كتاب "فوكو صحافيا، أقوال وكتابات" نتعرف على جانب مثير من "شخصية" هذا الرجل المثير للجدل والقاهر لليقينيات والجاهز. إنها صفة الصحافي، وهي المهنة التي ينظر إليها، عادة، على أنها تعادي الفكر وتسطح الحقائق وتبسط الأشياء. لكن، هذه المهنة، مع فوكو، تكتسب معنى آخر، وبعدا أكثر إثراء، وقدرة على الاستغوار والذهاب إلى عمق "الكلمات والأشياء".
ونصوص الكتاب، التي نشرت مادة صحافية في صحيفة "أخبار المساء" الإيطالية الشهيرة، هي تحقيق قام به فوكو لصالح هذه الجريدة الكبيرة، وكان موضوعه هو الثورة الإيرانية سنة 1978. فنظام آية الله الخميني الذي حل محل نظام الشاه، كان مثيرا للفضول الإعلامي ومادة دسمة في الصحافة الدولية التي فاجأها السقوط السريع لنظام الشاه، وصعود نظام ديني قطع نهائيا مع أشكال الحياة الاجتماعية التي كانت سائدة، ومع ما سماه فوكو نفسه بـ "نظام التحديث الزائف" الذي انتهجه شاه إيران، والذي لم يفلح في نقل هذا البلد إلى مصاف الدول الحديثة، وفاقمت الإجراءات الاقتصادية من أوضاع المجتمع الإيراني، وبدا واضحا أن كمشة من المتحكمين في السلطة هم من يملك الثروة، في حين يزداد الإقصاء الاجتماعي في باقي مناطق إيران ومحافظاتها، بما فيها العاصمة طهران التي كان يبدو فيها الفارق مرعبا ما بين أحياء النخبة المالية والسياسية وبقية الشعب.
ربما، في إطار العلاقات المغربية مع إيران، والتي سمتها التوتر منذ مدة طويلة، يدعو الأمر إلى التفكير في الآليات التي تحكم هذه العلاقة، وهي غريبة حقا، لأنها حبل التوتر يشدها حتى وإن كانت خارج "ديكتاتورية الجغرافيا"، فلا حدود مشتركة جغرافيا بين البلدين، اللهم، الحدود السياسية، أو الجغرافيا السياسية، والتي تجعل الشرق يصطدم بالغرب والجنوب بالشمال في جغرافيات سياسية أثمانها فادحة جدا.