لم يخرج وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق هذا العام، في افتتاح الدروس الرمضانية التي تُلقى أمام الملك محمد السادس، عن عادته وعادة سلفه الراحل عبد الكبير العلوي المدغري في بعث الرسائل السياسية، وإن كان الوزير التوفيق، في الدرس الافتتاحي للدروس الحسنية أمس الجمعة، قدم هذه الرسائل في لبوس اقتصادي في سياق لاصوت يعلو فيه على صوت الاستهلاك والمنافسة والمقاطعة.
السوق ملتقى الاقتصاد والسياسة والنفس
توقف التوفيق للتأكيد على الترابط بين ما هو سياسي واقتصادي في سياق لاحديث فيه خلال الأسابيع الأخيرة إلا عن قضايا المنافسة والاستهلاك ومقاطعة منتوجات، حيث أكد في درسه الذي كان عنوانه "حقوق النفس في الإسلام وأبعادها الاقتصادية"، عند ما اعتبرها مسلمات أربعة وهي أولا وجود علاقة عضوية بين السلوك البشري والاختيارات الاقتصادية، وثانيا، تبلور هذا السلوك البشري في السياسة التي هي في جوهرها تدبير للضعف البشري، وثالثا، التسليم بأن هذا السلوك تكيفه نفس الإنسان التي تشتهي وتشتري، ورابعا، اعتبار أن السوق هي ملتقى الاقتصاد والسياسة والنفس في آن واحد.
وقبل أن يربط بين بعض السياسات الملكية وموضوع درسه انطلاقا آية سورة الشمس "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"، من قبيل حديثه عن كون النداء الملكي بإعادة النظر في التنوذج التنموي يدخل في باب النفس اللوامة، واستثمار الملك في الشأن الديني فيه علاج مرض الشح، شدّد على الاختيار الاقتصادي الذي تسود فيه أخلاق العطاء، "على الأقل بقدرها الأدنى من الأمرين الأساسيين اللذين امتن الله تعالى بهما على قريش، وهما الأمن من الجوع والأمن من الخوف"، على حد تعبيره.
وبما أن الدرس كان حول تزكية النفس، فقد كان لابد للتوفيق كعادته الإشارة إلى التصوف الذي يهذّب النفوس والسلوك، ليتساءل إن كان قد حدث في هذا العصر تطور في معرفة نفس الإنسان من شأنه أن يعيد النظر في الحكم على سلوكه، وبالتالي في علاقة الاقتصاد بالدين، ليؤكد على أن الاحتكام إلى الأخلاق كيفما كان منبعها ضروري للتساكن السلمي في المجتمع.
"الإنسان يستهلك ليعيش"
واعتبر الوزير أنه ليس بدعا من القول ربط قيم الدين بآثارها الاقتصادية، فهو ربط عضوي في القرآن، مبرزا أن أن التزام الفرد والجماعة بسلوك أساسه التزكية يعد بثمراته على ثلاث مستويات هي النظرية الاقتصادية، والعدالة الاقتصادية، والكلفة الاقتصادية.
فعلى مستوى النظرية الاقتصادية، يقول الوزير، ليس القصد هو مناقشة التوجهات العامة بين الليبرالية والاشتراكية، وإنما المقصود الإقرار بأن مراعاة حقوق النفس تعني إدخال قيم خارجية على منطق السوق. أما العدالة الاقتصادية فتتأتى، بحسبه، على الخصوص بتوجيه إرادي مقنع لفضول الأموال، لا على أساس مجرد الإلزام الضريبي أو الزكاة أو التصدق الاختياري المحدود، بل على أساس سواد الشعور الطوعي بأن الإنسان مستخلف في مكتسباته.
أما الكلفة الاقتصادية على الفرد والمجتمع، فيمكن تصور حسابها، حسب التوفيق، على أساس تصور درجة عالية من ضبط سلوك الإسراف على النفس، ودرجة عالية من تجنب التبذير في الاحتياجات، ودرجة عالية من السلامة من الطغيان في العلاقات، وما يؤدي إليه من توترات وعداوات.
وأبرز الوزير أن هذه الأبعاد الثلاثة، النظرية والعدالة والكلفة، مرتبط بعضها ببعض أشد ارتباط، مشيرا إلى أن مسكويه لخص البعد الاقتصادي الاجتماعي للتزكية بقوله "إن السبيل إلى تقويم النفس أي التزكية ألا يتعدى الإنسان القدر الضروري من حاجاته، وألا يتعدى ما يملكه إلى ما يملكه غيره".
وكان لب ما رمى إليه الوزير أن حقوق النفس تجمعها تزكيتها وتعني ضبط سلوكها، ومن جملة ما يتمثل فيه هذا الضبط، حسبه، الاقتناع بأن الإنسان يستهلك ليعيش ولا يعيش ليستهلك، وأن استحضار مفهوم التزكية اليوم ينبه إلى الهوة القائمة بين مجرد الانتماء إلى الدين وبين حسن الالتزام على مستوى التدين.