هل يملك المثقف الجرأة للتعبير عن مواقه؟ وهل يساهم المثقف بجرأته في نسج الوعي المجتمعي من خلال ما يقدمه؟ وهل نملك ذلك المثقف الأيقونة سواء في الماضي أو الحاضر الذي يقاتل من أجل قناعته؟ ولماذا لا ينسجم المثقف مع ما يقوله وما يمارسه في الواقع؟
جملة من الأسئلة وغيرها، طرحت على طاولة نقاش، جمعت ثلة من المثقفين والكتاب والأدباء والفاعلين السياسيين، من بينهم، الروائي الجزائري المعروف واسيني الأعرج، والشاعر والفاعل المدني صلاح الوديع، وعاجل بنحمزة القيادي في حزب الاستقلال وأحد أبرز الفاعلين السياسيين في المغرب، فضلا عن الفاعل المدني والأمازيغي محمد عصيد، والكاتبة التونسية ألفة يوسف، خلال فعاليات مؤسسة المهرجان المتوسطي للثقافة الأمازيغية "ثويزا"، الذي انطلقت فعاليته اليوم الخميس 19 يوليوز، والممتد إلى غاية الـ22 منه.
الروائي الجزائري واسني الأعرج، طرح خلال تقديم أمثلة من التاريخ المعاصر، نموذجين للإجابة عن تساؤل "جرأة المثقف"، تفاعل معها الحضور بصدمة، بالنظر إلى ما ساقه، خلال حديثه عن وقائع من التاريخ لأبرز الأدباء الذين روجوا بما سطروه، مسلمات كانت ولا تزال غير قابلة للنقاش أو المجادلة.
وقبل خوض الأعرج في الحديث عن النموذجين، قال إن "المثقف يجب أن يكون صوت زمانه المعبر عنه في اللحظة التي تحتاج الموقف والفعل"، وأضاف: "المثقفين والروائيين والفنانين، لا يجب أن يعبروا عن مواقفهم قولاً فقط، بل يجب أن يكون تعبيرهم من منطلق قناعة راسخة. هذه الأخيرة يفرض أن تترجم إلى انخراط في الفعل، لأن الجرأة ليست فقط القدرة على القول ولكن أيضاً الانخراط لصالحه".
واعتبر الروائي الجزائري، أن المطلوب من الكاتب، ليس "الجرأة المحدودة، وأن يكون قوله متناقضاً مع فعله". وذهب حد القول، إنه في تاريخ "ما يسمونه بالعالم العربي، أي في الـ100 عام الأخيرة، لا نملك النموذج أو الأيقونة للمثقف الذي يمتلك الجرأة"، وشدد على أن ما وصفه بـ"الأيقونة لها دور في تجميع المواقف عند الأجيال، حتى لو كان هذا المرجع يمكن اختراقه أو انتقاده".
ولخص واسني الأعرج موقفه من التجارب السابقة لدى المثقفين بالقول: "إذا أخذت المسارات التاريخية لدى عدد من الكتاب، تجد انكسارات وردة تجاه مواقفهم".
وانتقل الروائي الجزائري إلى النموذج الأول؛ طه حسين، مصنفا إياه من العلامات الثقافية الكبرى في التاريخ، خاصة من خلال كتابه "في الشعر الجاهلي". واعتبر المتحدث ذاته أن العنوان وكأنه "تمويه" لما هو أعمق داخل الكتاب.
وأضاف واسيني، أن طه حسين، قدم من خلال كتابه حول "الشعر الجاهلي"، قضية بسيطة ولكنها مهمة جدا، وهي: "كيف يمكن أن نفكر في المطلقات والشيء الجاهز، من خلال طرح سؤال بسيط مفاده: هل الشعر الجاهلي حقيقة أو شعر مزور؟". ودفع طه حسين، حسب الروائي الجزائري، بهذا التساؤل إلى ما هو أبعد، أي إعادة النظر في المسلمات، لأن هذه الأخيرة تستمد استمرارها وقوتها من محيط يحرم الخوض في نقاشها، ويصلنا شفهيا، يردف المتحدث ذاته، ولا نملك حق مناقشته، "لكن طه حسين أثار هذا النقاش، بل طرح قضية حساسة تتعلق بالشك في الرواية الشفهية التي أوصلت إلينا القرآن، وأعطى أمثلة بآية قرآنية وناقشها".
هل ذهب طه حسين أبعد من ذلك في انسجام مع قناعته؟ يجيب واسيني الأعرج بالنفي، ويربط ذلك بوصول قضيته إلى القضاء المصري، هذا الأخير حكم ببراءته، لكنه الكاتب المصري، يضيف واسيني غيّر من أسلوب كتابته، و"بدأ يقدم نفسه على أساس أنه ابن بيئته وواحد من الذين يفكرون من داخل منطق المسلمات دون نقاشها أو الشك فيها".
مثال ثاني، ساقه واسيني الأعرج يظهر أنه أكثر وقعاً وقوة، بالنظر إلى ما حمله من ردود فعل مستمرة إلى اليوم حوله، وهو كتاب "أولاد حارتنا" للروائي المصري المعروف نجيب محفوظ، وما حمله من تمثل في الأرض لشخصيات في الفكر الجمعي تعتبر مقدسة، خاصة شخصية "جبلاوي" التي منحها محفوظ شخصية "الإله"، وفق الأعرج.
وقال الروائي الجزائري في شهادته عن هذه الحقبة التاريخية التي عرفت صدور الرواية، إن قيادات جماعة "الإخوان المسلمين"، ورغم الصراع الذي كان عندها مع السلطة في مصر حينها، ضغطت على جمال عبد الناصر، ودفعته لمنع الرواية، بل تم إيقاف نشر حلقاتها على جريدة "الأهرام".
يقول واسيني الأعرج، إن "الرواية اعتبرت أنها تسم بالذات الإلهية وسيئة أخلاقيا وسياسيا، ولأن الدولة المصرية مصلحتها أن تحافظ على الدين كوسيلة سلطوية، ارتأت منع الرواية".
المشكل ليس في رد فعل "الإخوان المسلمين" أو السلطة في مصر خلال تلك الحقبة، يوضح الروائي الجزائري، بل المشكلة في نجيب محفوظ، لأنه كتب في وصيته، أنه "سواء في حياته أو مماته لا تنشر الرواية إلا إذا وضعت مقدمة لها من توقيع شخصية من الأزهر، رغم أن الأخير هو الذي صادرها".
"وفعلا هذا الذي حدث، وكتبت المقدمة من طرف المؤسسة الأزهرية المتخلفة التي يمكن لأي حاكم أن يسيرها كما يشاء، سواء الإخوان المسلمين أو السيسي أو مبارك أو غيرهم، لأنها تلبس الجبة المناسبة كل مرة حسب هوية الحاكم"، وفق الاعرج.
وتأسف واسيني من موقف نجيب محفوظ، لكون "الطبعة التي تتضمن مقدمة الأزهر جاء فيها عبارة "إنها رواية لا تعني شيئا"، ما جعلها مجرد كلام، وحملت المقدمة من خلال التقييم تبخيسا للرواية، وسلباً للعمق الأدبي للنص".