ونحن على أيام معدودات من عيد الأضحى، يكثر سؤال الناس للمشايخ والفقهاء عن قضايا متعلقة بهذه الشعيرة، مع حرص بالغ من غالب الناس على صحة ما يضحون به، حرصا مبالغا فيه أحيانا لا تجده في شعائر أكثر أهمية وأعظم أولوية.
كما أنه مع عيد الأضحى تزدهر مختلف الأسواق، فهو مناسبة اقتصادية بامتياز، وفرصة لكثير من الناس من الفلاحين والتجار وأرباب المراكب لترويج سلعهم، وتحريك عجلة اقتصادية نادرا ما تعرف هذه الديناميكية، وكل ذلك محمود ما لم يصل حدود الجشع والاستغلال والتحايل.
ومن الاستغلال الاقتصادي للعيد، ما تقدم عليه بعض المؤسسات البنكية والتجارية من تقديم عروض لشراء أضحية العيد عبر القروض بفائدة، وقد أثار ذلك جدلا واسعا بين رافض مطلقا لهذه العروض، لأنها في نظره من الربا المحرم، والله لا يتعبد بالحرام، وبين مجيز ذلك مطلقا ، وبين من يعتبر اللجوء لذلك من باب الاضطرار المبيح لصاحبه ذلك، كما سمعنا مؤخرا ذلك من أحد مشايخ المؤسسة الرسمية الدينية.
ولا أريد هنا الدخول في نقاش حول فوائد القروض، وما يدور حولها من جدل فقهي قائم على تكييفها إن كانت هي الربا أو غير ذلك، بقدر ما أستغرب لإدراج سنة مستحبة وسط كل هذا الجدل والآراء، وكأن الأمر يتعلق بفرض لا يمكن إسقاطه، وواجب لا يمكن تركه، وكأن تارك الأضحية آثم مستحق للوعيد والتهديد، وواقع الحال أن الأضحية حتى عند الفقهاء لا تتجاوز كونها سنة مستحبة، بل كان عدد من الخلفاء الراشدين كأبي بكر وعمر ينهيان عن التضحية خشية أن يظن الناس أنها مفروضة كما هو واقع الحال اليوم، وحتى إن قيل أنها سنة مؤكدة فذلك لا يرفعها لمرتبة الإلزام والإيجاب، ولا يخرجها عن منح الاختيار للمكلف بين الفعل والترك، مع أفضلية الفعل في ظروف عادية وأوقات طبيعية.
لهذا من الغريب جدا إقحام أبواب الاضطرار والضرورة في ما لا إلزام فيه أصلا، فضلا عن توجيه الفقير والمعسر إلى الاقتراض وتحمل الدين من أجل القيام بشعيرة مستحبة، بل هذا يتناقض كليا مع مقاصد الأضحية ومراميها، والتي من أهمها وأولاها إطعام ذلك الفقير، "فكلوا منها وأطعموا البائس والفقير"، فكيف سيتحول المستحق لنيل هدايا الأضحية وعطاياها، إلى متكلف ومقترض ومتحمل للدين من أجل أن يكون مضحيا لا مستحقا للأضحية؟ ضاعت بذلك كل المقاصد التي من أجلها كانت هذه الشعيرة كل عام عند الأضحى، وغابت كل الأهداف والمرامي التي من أجلها كانت هذه الشريعة والشعيرة.
والأغرب من ذلك التماهي مع تصورات المجتمع وثقافته مهما كانت مخالفة حتى للتصورات الدينية السليمة في الباب، فبدل أن نرفع الوعي ونصحح التصورات، ونزيل أي غبش في الموضوع، ونشيع الفهم السليم بخصوص الأضحية، واعتبارها سنة لا يأثم تاركها، بل نؤكد على ضرورة الخضوع للأولويات في الحياة وبناء الاختيارات عليها، خاصة حين يزدحم وقت الأضحى مع التزامات أسرية لا بد منها، فليس شراء أضحية العيد وصرف المال فيها بأولى من صرفه في شراء الكتب المدرسية التي يتعلم بها الأبناء ويرفعون بها الجهل وينمون بها قدراتهم المعرفية والمهارية، خاصة ونحن على أبواب الدخول المدرسي وتبعاته ومصاريفه، لا شك أن هذه أولى وأحرى بصرف المال من صرفه على لحم يؤكل ونار توقد.
الإشكالية الحقيقية في الموضوع برأيي، هي تحول سنة الأضحى من شعيرة وعبادة وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى، إلى طقس اجتماعي وعادة مجتمعية، بعيدا عن كل أبعادها الروحية ومقاصدها الشرعية، تحول الأضحى إلى مناسبة للتفاخر والتباهي بين الجيران، وتحول ذلك لإكراه اجتماعي يبذل فيه المرء كل ما يملك حتى لو اضطر للاقتراض، دفعا لما يمكن أن يلحق أبناءه من حرج، ولما يمكن أن يصله من نبز وغمز من محيطه وجيرانه، وهذا ما يقدم تحليلا معقولا لظاهرة تخلي كثير من الأسر الميسورة عن القيام بهذه الشعيرة، مع تشبت الطبقات الشعبية بها، حسب الإحصائيات الرسمية للمندوبية السامية للتخطيط، إذ أن الأسر الميسورة تعيش اليوم حالة من الفردانية، انقرضت معها كثير من قيم الجوار، فيما لا زالت الطبقات الشعبية متشبتة بكثير من عاداتها وقيمها، فيصعب عليها التخلص من إكراهات الآخر، وهو ما يفسر تشبتها بالأضحية حتى لو كان ذلك بتكلف واضطرار.
لكن الحل لذلك ليس الخضوع لهذه الثقافة الاجتماعية وإن كانت غير سليمة، وإنما رفع الوعي وتصحيح المفاهيم، ليعرف الناس أن الأضحية سنة غير واجبة، من شاء ضحى ومن شاء لم يضح، ولكل أولوياته واختياراته.