الدخول المدرسي لهذه السنة كان ساخنا بإثارة الحديث حول إدراج بعض ألفاظ اللغة الدارجة ضمن بعض المناهج والمقررات الدراسية، ما بين مؤيد ومستنكر، وذلك ما فتح النقاش من جديد حول استعمال الفصحى أو الدارجة، وهو النقاش الذي أسال لعقود مدادا كثيرا، سواء هنا بالمغرب أو في بلاد المشرق.
هذا نقاش فارغ في نظري وزوبعة في فنجان، خلق صراع بين العربية الفصحى واللغة الدارجة ضرب من تضييع الوقت فيما لا جدوى منه ولا فائدة، فكلاهما يغذي وجدان المغربي وخياله ويساهم في تركيبه، حياته اليومية تنهل من اللغة الدارجة من خلال رصيدها وتراكماتها التاريخية والثقافية، والعربية الفصحى يوظفها لأبعاده النفسية والدينية.
فضلا على أن اللغة لم تكن يوما هدفا ولا غاية مبتغاة، الحسابات الإيديولوجية البئيسة هي من يفجر هذه النقاشات الفارغة، الحاجة والمصلحة من يحدد اختياراتنا اللغوية، حين تريد أن تكون تاجرا ناجحا تتعلم لغات متعددة، رأيت بعيني تجار ثوب من اليمن وباكستان يتحدثون دارجة مغربية سلسة لحاجتهم إلى الزبون المغربي وأمواله، وحين ستتوجه للصلاة ستنهل من رصيدك العربي، وحين تقرر الاطلاع على آخر الإصدرات العلمية والتكنولوجية من مصادرها الأصلية ستلجأ للتسجيل بإحدى مدارس اللغات الأجنبية، وحين تجتمع بعائلتك في جلسة حميمية سيكون من التكلف الحديث بغير الدارجة، وحين تعاشر زوجتك ستلجأ لأكثر المصطلحات فحشا وبذاءة دون أي تحرج أو تأفف.
الدارجة المغربية ليست إلا امتدادا وتطورا طبيعيا لكل اللغات التي احتك بها المغاربة، فكل اللغات تعرف مراحل في التطور، والعربية نفسها أيام شعراء المعلقات لم تكن هي نفسها قبلهم بقرون، وليست هي العربية التي نكتب ونقرأ بها اليوم.
الدارجة المغربية لها وضع اعتباري مميز كأداة تواصلية تجمع بين الشعب المغربي قاطبة ، وحاملة لمخزون كثيف من الوعي المغربي المشترك القادم من التاريخ، والمُشكل أيضا حديثا، تجد فيها التاريخ والجغرافيا والاجتماع والفن وكل شيء.
يصر أكثر الإسلاميين على الحط من الدارجة والانتقاص من قدرها، وكأنها صنعت في بلد آخر؛ يفعلون هذا الأمر من أجل فكرة مغرقة في الطوباوية تروم إرجاع العربية الفصحى كآلية أساسية للتواصل اليومي، ولو كان بالإمكان تحقيق ذلك لأمكن السابقين فعله والقيام به، وقد كانت الظروف - مقارنة باليوم- مناسبة جدا، حيث لم تكن الدارجة قد ابتعدت كثيرا عن الفصحى، وكانت السلطة السياسية الفقهية أكثر تمكنا في مفاصل الدولة!
الأسوء من ذلك في نظري دائما، هو أن هذا الدفاع المستميت عن اللغة العربية يستبطن في كثير من الحالات رغبة في التحكم والسيطرة على مفاصل المجتمع، والحال أن اللغات لا ثبات لها، هي خاضعة للتطور بفعل الاحتكاك والتراكم التاريخي، السلطة السياسية والنخب المهيمنة من يحدد لها القواعد والحدود تحقيقا لمصالح سياسية وشخصية.
الأعجب من ذلك، أن القرآن الكريم نفسه استعمل اللغة التي كانت دارجة في عصره، الأباريق والأرائك والتنور وجهنم والحطة وغيرها كلمات غير عربية، منها الهندي والفارسي والحبشي والقبطي وغيرها من لغات العالم وقتئذ، فلا قدسية لأي لغة كانت عربية أو غيرها، هي وسائل للتواصل وحاملات للفكر والتاريخ والثقافة، لكنها جزما لا طهرانية فيها ولا فضل للغة على أخرى إلا بمقدار إنتاجها العلمي والمعرفي والحضاري.
لا شك أنه في مقابل ذلك من يجعل من الدعوة لاستعمال الدارجة غطاء لتحقيق أهداف أيديولوجية، بعيدا عن الحرص على حفظ تراث المغاربة وإرثهم الثقافي والتاريخي، فضلا عن استلهامهم تجارب أخرى تختلف في خصوصياتها عن واقعنا المحلي، فاستنساخ التجارب بمعزل عن سياقها وظروفها التاريخية، كانت ولا زالت إحدى أهم مشكلات مثقفينا ونخبنا الفكرية والسياسية، ويبدو أن لا أحد سيتعظ في القريب العاجل، رغم كثرة تجارب الاستنساخ الفاشلة في السياسة والاقتصاد والاجتماع.
خلاصة الحديث هو أن الاعتراض والانتفاض حول بضع كلمات دارجة من لغتنا وتراثنا، تضييع للأوقات والطاقات ، كان أولى منه إثارة الحديث حول مناهج التربية وكيفية تفعيل المدرسة لدورها، والرفع من قيمة المدرس، وتقوية الحس النقدي، وتغليب جانب الفهم والتعقل على الحفظ البليد والاستظهار، فضلا على القيم التي يجب أن يتلقاها التلميذ في المدرسة، هذه مواضيع تستحق النقاش وليس إثارة الجدل حول "البغريرة" و"لبريوة".