أول "بطاقة بيضاء" تمنحها مؤسسة فريد بلكاهية الطلائعي لمحمد الباز، أحد "طلائعيي جيله"، كما وصفته رجاء بنشمسي، رئيسة المؤسسة وأرملة بلكاهية، والذي سلمته "يد" المتحف، تلك "اليد التي تفكر"، حسب مقولة للفنان الراحل.
يد ترمز إلى اهتمام بلكاهية بالصناعة التقليدية (الذي طوّع النحاس والجلد) وبالتقاليد التي هي "مستقبل الإنسان"، كما كان يقول، وهي أيضا "اليد الطولى" التي منحت للباز لكي "يحتل"، خلال الفترة ما بين 20 أكتوبر الجاري و17 نونبر المقبل، ثلاث فضاءات من بيت الراحل بلكاهية، الذي تحول مرسمه وجزء من بيته إلى متحف بحي النخيل الشمالي بمراكش الحمراء، بسند قوي من المجمع الشريف للفوسفاط.
إلهام بلكاهية
تناغي ثلاث منشآت للباز أعمال بلكاهية الذي ترفرف روحه في كل أجواء "المتحف"، وخصوصا على الأعمال الثلاثة، انطلاقا من "باب السماء" أو الشجرة الفولاذية التي استوت على تلة اصطناعية تطل بهامتها على النخيل الباسقة للمدينة الحمراء التي كان يعشقها بلكاهية والتي رأى النور يوما من أيام 1934 بينها.
كما ترفرف تلك الروح المجنحة في سماوات الفنون على "قسم الموت" في المنشأة الثانية، وعلى رأسه الملتهبة التي تعلو خارطة المملكة في المنشأة الثالثة في عمق المتحف.
لاينكر الباز حضور بلكاهية في قصة المنشآت الثلاث، لكنه يرفض أن تكون وفاة الفنان ملهمة له، رغم أن الأعمال الثلاث، تراوح، جيئة وذهابا، بين الحياة والموت. "لم تلهمني وفاة بلكاهية، فأنا اشتغلت كثيرا حتى لا آتي هنا وأستلهم خصوصا أعمال فريد، الذي عرفته كثيرا. أنا أتيت هنا لأبحث عن حيز ترابي لديه. نعم هو مات لكنه كان يعيش ويقيم هنا وهذا بيته ومشغله. وأنا أتيت بطريقة جد متواضعة وبكل احترام، بصراحة، لكي أحاول أن أجد مكاني وأظن أنني وجدته"، يقول الباز، في تصريح لـ"تيل كيل عربي".
شجرة الموت
"إذا رأيتم أعمالي التشكيلية، لا أحد يقربني من أعمال فريد، ولكنه دائم الحضور في هذه القصة، لأننا ببساطة في بيته، ولذا لا يمكن أن نتفادى هذا"، يقول الباز، وهو يقف تحت الشجرة التي تذكر بـ"شجرة آدم"، وبالحياة، أو كما قالت بنشمسي إنها "استقرار الحياة"، وتذكر بالموت أيضا، فلماذا هذا الحضور للموت، الذي يتكرر مع المنشأة الثانية، وهي "قسم الموت" الذي تم وضعه وسط "ديوان المجالس" (قاعة المحاضرات)، والرأس الملتهبة لبلكاهية في المنشأة الثالثة؟
يجيب الباز أن الشجرة هي "شبح أو هيكل شجرة"، ترمز أيضا إلى الموت، ويوضح، لـ"تيل كيل عربي": "أنا اشتغلت منذ ثلاثين سنة على 'إصلاح العضال'، وعندما بدأت الاشتغال قلت لنفسي إنني أريد أن أصلح شيئا لأن العالم غير منصف والعالم غير جيد، وقلت بأن عملي الفني يمكن أن يصلح شيئا إلى 'الحد'، وهذا الحد هو الموت. وبديهي أنه ليس لدي هذه الفنطازيا حول الموت الذي لا أخشاه، وفنطازيا كل فنان الذي يحترم نفسه أن يسعى، في وقت من الأوقات، أن يقاوم الموت، حيث يجد أنه من غير العدل أن يكون هذا الموت. الفنان يريد أن يبقى ويستمر وكل أعمال الأوبرا وكل الكتب الفلسفية المهمة تتطرق إلى هذا التناقض مع الموت، فشكسبير ليس إلا هذا، كما موزارت وغيره، فهذه مسألة 'وجودية'"، على حد تعبيره.
"قسم الموت والحياة"
"التوتر بين الحياة والموت"، حسب تعبير رجاء بنشمسي، هو ما ترمي إلى التعبير عنه منشأة "القسم الميت" بـ"ديوان المجالس"، حيث استوت طاولات على أخشاب مستعملة، وتحولت جوانب القاعة التي تتوسط حديقة المتحف إلى سموات زرقاء (التقطت من سماء تحناوت، غير بعيد عن مراكش)، ترمز إلى الحياة، وتعلوها عيون حمراء شاخصة كأنها الموت المترصد بالخلائق، وتؤثثها خلفية صوتية لتلاميذ صغار يرددون الحروف الأبجدية (وهم تلاميذ الفنان امبارك بوحشيشي بتاحناوت أيضا)، كأنها تعبر عن استمرار الحياة وتناقل المعرفة.
"أين فريد؟"
بالنسبة إلى رأس بلكاهية الملتهب في الصورة التي تعلو المنشأة الثالثة وهي خريطة المغرب، بخلفية صوتية تردد الشعار الوطني، اعتبر الباز، في تصريحه لـ"تيل كيل عربي" أن ذلك "غريبا"، وأوضح "تم إشعال النار في رأس جورج بوش وغيره، ولكن ليس هذا هو المشكل، وهذا يعود بي إلى المنمنمات الفارسية حيث كان يتم الترميز إلى موسى برأس ملتهبة، وفي الإسلام يتم التمثيل للنبي برأس من نور... والنار هي التي تنقل الشيء من حالة الصلابة إلى الحالة الغازية، حيث هناك تحول خيميائي تقريبا أو روحاني، وهذا ما يهمني. وفريد ميت ونحن في ضيافته ووسط أعماله، ولكن أين هو؟".
داخل الرواق، الذي يجاور مشغل بلكاهية، امتدت على الأرضية خارطة المغرب مجزأة إلى 12 جزءا، حسب التقسيم الإداري للجهات، في إشارة إلى المملكة وثقافتها كما كان يحبها بلكاهية.