أسدلت ثورة تونس ستار عامها الثامن، الاثنين 14 يناير، فاتحة ستار عام آخر موشح بألوان الطيف الحزبي ومملوء بالوعود الانتخابية لولا مؤشرات الاقتصاد التي لم تصاحب المشهد السياسي في انتقاله بل ظلت، وفق أراء عدد من الاقتصاديين، تشكل الحلقة المفرغة لتونس ولاقتصادها ولم تلب بعد تطلعات المواطن ولم تغر المستثمر والسائح ولا تزال مدارا للتجاذبات.
ولئن كان عدد من الاقتصاديين يجمعون على أن ثورة تونس التي ولدت من رحم التفاوت الجهوي والبطالة وشكلت أولى ثورات الربيع العربي، قد نجحت في رسم مسار سياسي أفضى إلى تعددية حزبية وتركيز مؤسسات دستورية وتقدير دولي للتجربة الديمقراطية الوليدة، بيد أنها عجزت عن تحقيق الانتقال الاقتصادي من خلال استمرار نفس النموذج التنموي مع التخلي عن آليات التخطيط فيه مما عكر عالم المال والأعمال وخرم توازن المقدرة الشرائية.
ونسعى، في هذا المقال، إلى الوقوف على الواقع الاقتصادي لتونس بعد 8 سنوات من ثورة 2011 من خلال قراءة تحليلية، تتصل بالعوامل التي أبقت عجلة الاقتصاد التونسي خارج المسار والأداوات التي يمكن ان تدفع عجلته المثقلة مجددا نحو الإقلاع، يقدمها استاذا الاقتصاد بالجامعة التونسية رضا الشكندالي ورضا قويعة.
* نجحت السياسة وخاب الاقتصاد *
يكاد أستاذا الاقتصاد بالجامعة التونسية رضا الشكندالي ورضا قويعة، يتفقان على أن تونس تقدمت بشكل جيد، بعد 8 سنوات من ثورة 2011 على المستوى السياسي وبناء المؤسسات، وأصبحت البلاد تتبوأ المرتبة الأولى عربيا في الحريات السياسية والإعلامية، لكنها تاخرت في المسار الاقتصادي وأصبحت تحتل مراتب سيئة في كل التصنيفات الاقتصادية لجل المؤسسات الدولية .
ويقول الشكندالي "منذ سنة 2011 وإلى حدود سنة 2015 سجلت نسبة البطالة منحى تنازليا، حيث انخفضت في السنوات الأولى من الثورة من 18,9 بالمائة سنة 2011 إلى 15,4 بالمائة سنة 2015 لكنها بقيت عند ذلك إلى الآن".
ويذهب رضا قويعة، أبعد زمنيا من الشكندالي، ليعود الى العشرية السابقة للثورة (2000-2010) والتي تشكل الوقود الذي دفع مكونات الشعب إلى الشارع ويقارنها مع سنوات مع بعد الثورة (2011-2019).
ويرى قويعة أن الاقتصاد التونسي في ظل السنوات السابقة للثورة كان يمتلك مؤشرات أفضل من المحققة الآن ذلك أن نسبة النمو الاقتصادي السنوي كانت في حدود 5,5 بالمائة وكانت نسبة البطالة متفاوته حسب الجهات نتيجة منوال تنموي قائم على التصدير لا يراعى الجهات ولا الاستهلاك الداخلي ".
ويضيف تميزت تلك الحقبة الاقتصادية بوجود حركة تصديرية تعتمد على الفوسفاط والتمور رغم المشاكل التي ولدها النموذج الاقتصادي لتونس خاصة على مستوى خلق الفوارق الجهوية (السواحل- المناطق الداخلية).
ويلتقى قويعة والشكندالي، عندما يتطرقان إلى الأوضاع الاقتصادية القائمة حاليا في تونس، إذ أن تونس، وفق قويعة، ترزح تحت مشكل تراجع نسب نمو الاقتصاد الوطني التي لم تصل، خلال السنوات الاخيرة، إلى النسب المبرمجة وجاءت النتائج دون التوقعات وكذلك تراجع الانتاج الصناعي الذي يشكل 55 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
ويلخص الشكندالي الأوضاع القائمة بالقول "مع بداية الثورة تحمل القطاع العام كل المسؤولية واستنزف كل طاقاته للتوظيف إلا أنه وصل حد الذروة ولا يمكنه المواصلة في هذا المنوال الذي يعتمد التوظيف عبر القطاع العام".
ويضيف "كان على القطاع الخاص أن يحمل المشعل على القطاع العام في مسألة التوظيف، إلا أن هذا الأخير لا يزال متخوفا ومترددا من جراء عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي وهذا عادي جدا في فترات الانتقال الديمقراطي"، لكن فترة الانتظار، وفق الشكندالي، طالت والتردد بالنسبة للقطاع الخاص يعود إلى تواصل التجاذبات السياسية والاحتجاجات وثقافة العزوف عن العمل التي قلصت بصفة كبيرة في إنتاجية العمل".
ويرى الشكندالي أن الحكومة لم تعمل على مساعدة القطاع الخاص على أخذ المشعل خاصة بعد الفرصة التي أتيحت لها في أواسط 2016 مع الاتفاق الممدد مع صندوق النقد الدولي، حيث أنها اتبعت سياسات اقتصادية عمقت مشاكل القطاع الخاص، ولم تساعد السياسات الاقتصادية التي توافقت عليها مع الصندوق على تجاوز أزمة الركود التي تميز الاستثمار الخاص في تونس".
ويقول "لا السياسات النقدية ولا السياسات الجبائية ولا كيفية إعداد ميزانية الدولة ساعدت على استحثاث نسق الاستثمار الخاص بل زادت في الطين بلة وأدت إلى مزيد انكماشه".
ويضيف "الحكومات المتعاقبة ذهبت في سياسات لا تتناسق مع السياق التونسي وهي سياسات ينصح بها صندوق النقد الدولي لكل الدول التي يتدخل فيها بدون الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات هذه البلدان وكان على هذه الحكومات أن تتفاوض على الأهداف وأن تترك لها الحرية في اختيار السياسات المناسبة".
وارتفعت نسبة الفائدة الرئيسية للبنك المركزي التونسي 8 مرات متتالية منذ جانفي 2013 من 3,75 بالمائة الى 6,75 بالمائة والضغط الجبائي من 20,1 بالمائة سنة 2010 الى 23,1 بالمائة 2018، وفق الشكندالي.
وأدت سياسة الصرف المرنة، وفق الشكندالي، إلى انهيار الدينار التونسي، الذي تراجعت قيمته من 1,922 دينار مقابل اليورو و1,438 دينار مقابل الدولار سنة 2010 الى 3,400 دينار مقابل اليورو 2,990 دينار مقابل الدولار سنة 2018 .
ويرى الشكندالي أن السياسات الاقتصادية سالفة الذكر لا تشجع على الاستثمار الخاص بما انها رفعت في تكلفته، ومقابل ذلك قلصت حكومات ما بعد الثورة في حصة نفقات التنمية من حجم الميزانية من 26 بالمائة سنة 2010 إلى 15,6 بالمائة سنة 2018 وهو ما لم يساعد على تحسين البنية التحتية خاصة في الجهات التي تعتبر الأرضية الملائمة للاستثمار.
ويعتقد رضا قويعة، من جهته، بوجود حالة تردد لدى المستثمرين المحليين في تونس بسبب وضعية مناخ الاستثمار رغم محاولات الدولة إعطاء الامتيازات وتطوير قوانين الاستثمار مبينا أن التجاذبات السياسية في تونس قد "اأقت بثقلها على كل ما يحدث وأن الاستثمارات تتأثر بذلك".
ويشير الشكندالي، الى أن ارتفاع تكلفة الانتاج جراء السياسة الجبائية والنقدية وسياسة الصرف المعتمدة خاصة منذ 2016 أسهمت في انفلات الأسعار وارتفاع معدلات التضخم الذي ارتفع من 3,8 بالمائة في سنة 2016، وهي نسبة قريبة من المستوى المسجل سنة 2010، إلى حدود 7,5 بالمائة في نهاية 2018.
ويلفت الانظار إلى أن السياسات التي اعتمدت خاصة مع حكومة الشاهد، أثرت سلبا على المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي حيث أرهقت الاستثمار الخاص وقلصت من فرص التشغيل وأضعفت الاستهلاك الخاص بدون أن تتوصل إلى التحكم في الأسعار.
وعجزت هذه السياسات، وفق الشكندالي، حتى على استعادة نسق إنتاج الفزسفاط إلى المعدلات العادية مما أسهم في تفاقم عجز الميزان التجاري والذي تجاوز الأرقام القياسية المعتادة حيث ارتفع من 8,3 مليار دينار سنة 2010 إلى 19 مليار دينار سنة 2018.
ويقول قويعة، أن الحلقة المفرغة، التي يعيشها الاقتصاد التونسي والتي تنتهي دائما إلى تنفيذ إضرابات يتم التخفيض من حدتها عن طريق الزيادات من خلال اللجوء إلى الاقتراض، أفسدت بيئة الاستثمار في تونس".
ويشير، الشكندالي، إلى أن المعدل السنوي لنمو الاقتصاد التونسي خلال ال8 سنوات من الثورة لم يتجاوز 1,7 بالمائة ويضيف "إذا ما احتسبنا نمو الثروة في تونس واعتمدنا على معطيات البنك الدولي بالدولار، فإن الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية ارتفع من 44,1 مليار دولار سنة 2010 إلى 47,6 مليار دولار سنة 2014 لينخفض بعد ذلك إلى 40,7 مليار دولار سنة 2017" .
* الطبقة المتوسطة تحتاج الى 1634 دينارا شهريا *
يقول الشكندالي "إذا أردنا الحديث عن المقدرة الشرائية للمواطن التونسي ضمن المتوسط اعتمادا على الناتج المحلي الإجمالي لكل ساكن بالأسعار الجارية أو الدخل المتوسط في تونس حسب معطيات البنك الدولي، فإنه تراجع من 345 دولار أو 496 دينار في الشهر سنة 2010 إلى 291 دولارا أو727 دينارا في الشهر مما يشكل انخفاضا بنحو15,7 بالمائةفي 8 سنوات".
ويضيف "اذا اعتمدنا على نفس معطيات البنك الدولي، فان مؤشر الأسعار عند الاستهلاك ارتفع، إلى حدود شهر ديسمبر 2018، بنسبة 42,7 بالمائة وهذا يعني أن المقدرة الشرائية تراجعت ب 58,4 بالمائة خلال 8 سنوات بعد الثورة، مما أدى إلى تنامي الهجرة المنظمة خاصة لدى أغلب الكفاءات الوطنية من أطباء وجامعيين ومهندسين وهم من الطبقة الوسطى.
ويشدد الشكندالي في هذه النقطة على أن" تحقيق استقرار المقدرة الشرائية للمواطن التونسي المتوسط، يتطلب ترفيع الدخل المتوسط إلى حدود 547 دولار أي ما يقارب 1634دينار في الشهر في سنة 2019 ".
ويؤكد الشكندالي أن الخطاب الاقتصادي للحكومة اقتصر على تحقيق التوازنات المالية خاصة في ميزانية الدولة ولم تعد الأهداف الرئيسية لقوانين المالية للسنوات الأخيرة تتمثل في التشغيل والتحكم في الأسعار والمحافظة على المقدرة الشرائية للمواطن التونسي بل أصبحت السياسات الاقتصادية متوجهة لإرضاء الخارج أي أرضاء المؤسسات الدولية حتى تصرف الاقساط المتبقية من القروض الموعودة".
ويحسب للحكومة تقليص نسبة عجز موازنة الدولة من الناتج المحلي الاجمالي. فبعد ارتفاعه من 1 بالمائة سنة 2010 الى 6,2 بالمائة سنة 2017 بدأ في الانخفاض ليصل إلى 4,9سنة 2018 والنية متجهة إلى تخفيضه إلى حدود 3,9 سنة 2019.
ويضيف رغم محاولات التحكم في عجز موازنة الدولة، فإن حجم ميزانية الدولة ارتفع بصورة كبيرة من 15,5 مليار دينار سنة 2010 إلى 40,8 مليار دينار في قانون المالية لسنة 2019 أي بزيادة تقدر ب 25,3 مليار دينار منها النصف تقريبا (أي 11,6 مليار دينار) في حكومة يوسف الشاهد.
وترزح تونس بعد 8 سنوات من الثورة، وفق الشكندالي، تحت وطأة القروض الخارجية التي تشكل المورد الأهم في موارد الاقتراض حيث ارتفعت من 7,3 بالمائة سنة 2010 إلى 25 بالمائة سنة 2017 ليرتفع الدين العمومي من الناتج بصورة ملحوظة من 40,7 بالمائة سنة 2010 إلى 71,7 بالمائةسنة 2018.
* منوال اقتصادي عفى عنه الزمن*
يرى رضا قويعة، أن تونس باتت في حاجة ماسة إلى تغيير المنوال الاقتصادي القائم، الذي عفى عنه الزمن وتجاوزته الأحداث، وينبع طلب قويعة من الأوضاع التي آلت إليها محركات الاقتصاد الوطني والذي عجز عن الإجابة على الطلبات المتنامية للتشغيل ولم يتوصل إلى إقناع المستثمرين باختيار الوجهة التونسية.
ويضيف، نلاحظ أن نسبة النمو تراجعت إلى الصفر تقريبا في تونس في بعض السنوات في ظل تقلص كبير لمؤشرات التنمية وهجرة رؤوس الأموال، مشيرا إلى ان عائدات الاستثمار الأجنبي لم ترتفع في تونس إذا ما تم احتسابها بالمقارنة مع انزلاق قيمة الدينار.
ويرجع قويعة حالة التردد لدى المستثمرين إلى الأوضاع الاجتماعية السائدة في البلاد والتي تجلت أحيانا في حالة الاحتقان وتكرر الاضرابات وعدم توفر رؤية واضحة بخصوص سنة 2019.
ويقول إن التشغيل أثقل ميزانية الدولة على امتداد السنوات الأخيرة، مشيرا إلى أن البطالة تعد مشكلا جهويا وهو ما يتطلب النظر في إمكانية الاستثمار في "رأس المال المحلي والجهوي" (رؤوس أموال على مستوى الجهات).
ويشير قويعة إلى عدم وجود ثقة في الاحزاب في الوقت الحالي خاصة مع استمرار التجاذبات السياسية وتدهور الأوضاع الاقتصادية مما أدى ادإلى تراجع الطاقة الشرائية للمواطن التونسي وارتباط النظام الاقتصاد الوطني بالتوريد وأسهم ذلك في مزيد تدهور مخزون العملة الصعبة.
ويرى هذا الخبير أن الحكومة باتت تعمل، في الوقت الحالي، تحت عجز مالي لا نظير له غذاه خاصة ارتفاع مستوى الدين الخارجي وضرروة تسديد زهاء9 مليارات دينار سنة 2019 على شكل ديون وخدمات دين لفائدة مؤسسات مانحة.
ويعتقد أن نسبة التضخم قد تفاقمت، كما أن الترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية للبنك المركزي التونسي إلى عتبة 7,5 بالمائة بهدف التخفيض في الاستهلاك أثرت سلبا على الاستثمار.
ولدى تطرقه إلى بعض المؤشرات الايجابية التي تحققت في 2018، اعتبر قويعة أن تحسن الميزان التجاري خلال سنة 2018 "ظرفيا" مرتبط بتطور صادرات تونس من زيت الزيتون، كما أن العائدات السياحية لاتزال ضئيلة وتبلغ نحو 150 أورو للسائح الواحد والحال أن الرقم يرتفع إلى 600 اورو للسائح الذي يزرو المغرب على سبيل المثال.
وولد تعاقب المسؤولين والحكومات على امتداد 8 سنوات من عمر الثورة، حالة من عدم اتضاح الرؤى حول البرامج الاقتصادية لتونس مما جعل قويعة يرى فيها انعكاسا لمقولة"الماء المتحرك أفضل من الراكد ".
وستشكل مؤشرات الاقتصاد الوطني بشكلها الحالي وقودا انتخابيا في العام التاسع من الثورة (سنة 2019)، الذي سينتهي إلى انتخابات رئاسية وتشريعية، لكن الناخب التونسي، الذي يبقى مواطنا يعيش في مختلف أروقة هذا الوطن ويتجول في أسواقه يعلم جيدا ما آلت إليه الأوضاع من خلال نظرة سريعة يلقيها فقط على الأسعار التي تلهب بلده "الغالي جدا".
عن الوكالة التونسية الأنباء