كتبه: محمد عبد الوهاب رفيقي
[email protected]
انهزمت داعش بالرقة السورية شهورا قليلة فقط بعد اندحارها بموصل العراق، وبفقدها لعاصمتي دولة " الخلافة" التي أعلنتها يمكن الحديث عن نهاية التنظيم، والذي لن يتبقى منه إلا فلول من المقاتلين، وبعض الجيوب الصغيرة في مناطق أخرى كسيناء و اليمن وليبيا.
إلا أن السؤال المشروع في نظري عند سماع مثل هذه الأخبار: هل انتهت داعش كفكرة؟ هل انتهت كحلم يراود كثيرا من السلفيين ممن يسوقون لأنفسهم ك " معتدلين" و " وسطيين" ؟ هل لا زال بيننا من يحلم بدولة الخلافة التي تنصب الخليفة القرشي ، وتقيم الحدود، وتعلن تطبيق الشريعة، وتعلي راية الجهاد لنشر الإسلام في كل أنحاء الأرض، وتحيي فقه السبي و الجواري وملك اليمين؟
يؤسفني أن تكون الإجابة : نعم، لا زالوا بيننا، وخلفهم أتباع يحملون فكرتهم، و ينتظرون على أحر من الجمر زمن التنزيل وأوان التطبيق. بل الأخطر من ذلك: أنهم يرفعون شعارات الاعتدال والوسطية ونبذ التطرف والإرهاب، ويتحدثون لوسائل الإعلام، ولهم نشاط دائب على مواقع التواصل والميديا.
كتبت قبل مدة مقالا أثار ضجة كبيرة حول داعش والخوارج، وعن كون داعش فرقة سنية وليست خارجية، وأنها تنهل من تراث سني يجب تنقيحه وإعادة قراءته، فأرسل لي يومها شيخ سلفي مغربي معروف رسالة بمنطق النصيحة المعروف عند أبناء هذا التيار، وبكثير من الوصاية والتعالي والشفقة، وكان من أهم ما جاء في الرسالة أننا لا نخالف داعش في شيء ، سوى في إسرافها في الدماء وبغيها على المخالفين، وفي عدم استشارتها لباقي علماء الأمة في إقامتها لما نحلم به جميعا.
هكذا الأمر إذن، ليس مشكلا عنده أن تحمل داعش مشروعا دمويا لا يعترف بأحد، و لا يتوانى في سبيل تحقيق أهدافه في سفك الدماء واغتصاب مئات النساء، المشكل فقط هو أن التنظيم لم يستشر الشيخ مع أصحابه قبل التنفيذ، وأنه يقاتل التنظيمات المتطرفة الأخرى كالنصرة والأحرار وباقي الجماعات السلفية المقاتلة.
قدر لي أن ألتقي ذلك الشيخ على مائدة عشاء دعينا لها معا، سألته ونحن نغسل أيدينا من الطعام: وهل الإسراف في الدماء أمر هين وليس خلافا في الأصول؟؟
أجابني ضاحكا: وهل تعرف دولة إسلامية في التاريخ لم تقم على الإسراف في الدماء ثم اعتدلت بعد ذلك؟.
كان جوابه هنا أكثر جرأة وصراحة، أفصح فيه عن تصوره لمشروع الدولة الإسلامية الذي يحلم به، وشكل النظام الذي يرجو إقامته.
حقيقة الأمر أن هؤلاء جميعا " معتدلهم" و متطرفهم يحلمون بنموذج الدولة الإسلامية، وبعودة نظام " الخلافة" بمفهومه التاريخي ومشروعه المجتمعي، بعيدا عن منطق الدولة الحديثة، بل بعيدا حتى عن منطق الدين المتصالح مع الواقع والمجتمع، هو حلم استعادة زمن آخر و عصر غير العصر الذي نعيشه، داعش لم تقم سوى باستعادة هذا الحلم وتحويله لواقع على الأرض.
تسأل ذلك الشيخ وأمثاله عن مشروعهم المجتمعي، فلا تجد عندهم ترددا في الجواب: مشروعنا تطبيق الشريعة الإسلامية.
الشريعة الإسلامية عند هؤلاء هي تطبيق الحدود من جلد الزاني ورجم المحصن وقطع يد السارق وقطع يد المحارب ورجله من خلاف وقتل المرتد وتارك الصلاة، هي إكراه المجتمع على الخضوع لاختيار واحد في الحياة لا بديل عنه ولا خيار، هي تقسيم العالم لدار إسلام ودار كفر ودار سلم ودار حرب، هي معاداة القيم الكونية ومباديء حقوق الإنسان، هذه هي الشريعة التي يحلمون بها، أما القوانين الوضعية التي نتحاكم إليها اليوم، فليست سوى شرائع أرضية حلت محل الأحكام السماوية فعارضتها وحاربتها، فالمتحاكم إليها كافر، على خلاف بينهم هل هو كافر كفرا أصغر كما يزعم أولائك " المعتدلون"، أو كافر كفرا أكبر كما تنص عليه الأدبيات الوهابية، وكما تصرح به داعش الواضحة والصريحة في طرحها الإرهابي.
لا يؤمنون جميعا إلا بمنطق الشريعة، ولهذا حين يتحدث بعضهم مؤخرا عن شرعية عقود الزواج بالفاتحة، وإن خالفت القانون، على إثر الفضيحة المعلومة، يصرح بأن الشريعة لا تشترط التوثيق لعقد النكاح، بل يصرح المعني نفسه في حوار سابق بأن اشتراط موافقة الزوجة الأولى للزواج بثانية ليس من الشرع وإن نص على ذلك القانون، فهناك شريعة يحلم بتطبيقها، وهناك قانون وضعي المؤمن به كافر كما يفهمون وفهم الخوارج قبلهم من تنزيل قول الله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون".
يناقشون في منتدياتهم حكم التعامل مع هذه القوانين اضطرارا، بين مانع بل مكفر كالدواعش، وبين مبيح للاضطرار والضرورة كغالب التيارات السلفية، أما من يؤمن بمشروعية هذه القوانين ووجوب الاحتكام إليها والانضباط بها فذلك كافر كفرا أكبر بالإجماع والاتفاق، يستحضرون التفاسير التراثية لآيات الحاكمية وجنكيز خان وقانون الياسق الذي وضعه وحكم علماء عصره عليه بالكفر بسبب ذلك.
هو مشروع واحد عند الجميع، يختلفون في تفاصيله وتوقيته وشكل تنزيله، بين من يرى لزوم التنفيذ عاجلا ومن يرى ضرورة التمهل وعدم التعجل حتى تكون الشعوب مستعدة لاحتضان الدولة والقائمين عليها، بين من يرى جاهزية هذه الجماعات لإعلان الدولة وبين من يرى عدم اكتمال العدة والقوة حسب تعبيرهم، بين من يرى أن التغيير يكون من هرم القمة ومن يرى أنه يكون من القاعدة، فيجتهد دعويا وسياسيا لبلوغ الهدف، اختلافات فرعية في التفاصيل والتوقيت لا غير، والحلم هو : الخلافة.
دواعش سوريا والعراق كانوا أكثر وضوحا في تنزيل معتقداتهم وأحلامهم، لكن غيرهم ممن لا زالوا بيننا، إما ممارس للتقية، وإما باحث في تأويلات وتفسيرات السابقين ما يمكنه من العيش في دولة القانون، ويريح في الوقت ذاته ضميره من التأنيب علي تأجيل الحلم "الواجب شرعا".
هو واقع لا يمكن تجاوزه، بعيدا عن المبالغة أو التجني أو التضخيم، عشته واقعا، وناقشت كثيرا ممن يحملونه ويبشرون به، ماتت داعش التي في الرقة والموصل، لكن داعش لا زالت معنا، وبيننا.