الشرقي الحرش/ المصطفى أزوكاح
ملف حارق ورثه رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، عن سلفه عبد الإله بنكيران. ملف لم تقدم أية حكومة مغربية على توضيح الرؤية حوله منذ أول دستور عرفته المملكة. إنه القانون التنظيمي لحق الإضراب. جميع الدساتير كفلته منذ الستنيات من القرن الماضي، لكنه لم ينظم.
إرث ثقيل
وحده عبد الإله بنكيران، مدفوعا بما كان يراه إنجازا في إصلاح نظام معاشات التقاعد، الذي يدبره الصندوق المغربي للتقاعد، عمد، ضدا على اعتراضات النقابات، إلى بلورة ووضع مشروع قانون حول تنظيم الحق في الإضراب بالبرلمان.
ذلك سلوك أغضب المركزيات النقابية، التي رأت في عدم إطلاق مفاوضات حول مشروع قانون ينظم الحق في الإضراب، في إطار الحوار الاجتماعي، خرقا لمقتضيات الحوار الاجتماعي الثلاثي، الذي يجمع الحكومة والنقابات ورجال الأعمال، غير أن ذلك المشروع ظل « مجمدا » في المؤسسة التشريعية، إلى أن تم التنصيص في اتفاق الحوار الاجتماعي، الذي أبرم مؤخرا بين الحكومة والاتحاد العام لمقاولات المغرب وثلاث نقابات، باستثناء الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، على التشاور حول القوانين الاجتماعية..
مناسبة اغتنمها صلاح الدين مزوار، رئيس الاتحاد العام لمقاولات المغرب، في يونيو الماضي، بمناسبة مرور عام على ترؤسه لتلك المنظمة التي تدافع عن مصالح رجال الأعمال، ليطاب بضرورة إخراج القانون التنظيمي للإضراب في العالم المقبل، علما أن منظمة الباطرونا لم تكف في السنوات الأخيرة، عن الضغظ من أجل الحصول على ذلك القانون.
وزير الشغل والإدماج المهني، محمد يتيم، دعا المركزيات الأربع الأكثر تمثيلا، يومي الاثنين والثلاثاء، من أجل التشاور حول مشروع قانون الإضراب، حيث أبدت المركزيات تحفظاتها على ذلك المشروع، بل إن منها من اعتبر أن التشاور ينافي مقتضيات الحوار الاجتماعي، الذي يقتضي التفاوض.
ماذا يقول مشروع القانون؟
يتكون مشروع القانون من 59 مادة، وينص منذ البداية على أنه لا يمكن اللجوء إلى الإضراب، إلا بعد فشل المفاوضات الداخلية، ولا يمكن " اللجوء إلى ممارسة حق الإضراب، إلا بعد انصرام أجل 30 يوميا من تاريخ توصل المشغل بالملف المطلبي "، مشددا على أنه يتوجب القيام خلال ذلك الأجل بمفاوضات قصد البحث عن حلول، ويؤكد على بطلان كل شرط تعاقدي أو التزام يقضي بتنازل الأجير عن ممارسة حق الإضراب، غير أنه " يجوز التنصيص في اتفاقيات الشغل الجماعية على تعليق ممارسة حق الإضراب خلال مدة محددة"، ويمنع على المشغلين وعلى المنظمات النقابية للأجراء عرقلة ممارسة حق الإضراب بواسطة الاعتداء أو الانتقام أو الإغراء أو أي وسيلة أخرى.
ويحظر المشروع على المشغل، خلال مدة سريان الإضراب الاستعانة بأجراء أخرين، لا تربطهم أي علاقة شغل قبل تاريخ تبليغه قرار الإضرار، غير أنه يجور للمشغل، في حال رفض الأجراء المكلفين بتوفير حد أدنى من الخدمة أداء المهم المسندة لهم في المرافق الحييوية، إحلال أجراء آخرين محل الأجراء المكلفين بتوفير حد أدنى من الخدمة، وذلك خلال مدة سريان الإضراب، في الوقت نفسه، يؤكد محررو المشروع على أنه " في حالة تأثير ممارسة حق الإضراب على تزويد السوق بالمواد والخدمات الأساسية اللازمة ، لحماية حياة المواطنين وصحتهم وسلامتهم يتعين على المشغيل أو من ينوب عنه الاستعانة فورا بأجراء آخرين لتأمين استمرار المقاولة في تقديم خدماتها خلال مدة سريان الإضراب. وفي حالة تعذر ذلك، أمكن للسلطات المحلية المختصة اتخاذ التدابير اللازمة لضمان استمرار المقاولة في تقديم خدماتها على مسؤولية المشغل ".
ويمنع مشروع القانون اتخاذ أي إجراء تمييزي في حق الأجراء بسبب ممارستهم حق الإضراب، كما يحظر منع أجير غير مضرب أو المشغل من ولوج أماكن العمل أو من القيام بمزاولة نشاطه المهني، و " يعتبر الأجراء المشاركون في الإضراب في حالة توقف عن العمل خلال مدة الإضراب، وفي هذه الحالة لا يمكنهم الاستفادة من الأجر عن المدة المذكورة ».
يتخذ قرار الإضراب من قبل الجمع العام للأجراء بأغلبية ثلاثة أرباع أجراء المؤسسة أو المقاولة ، وأن يكون معللا مع تحديد مدة الإضراب ، ويشعر به المشغل قبل خمسة عشرة يوما، غير أن تلك المدة تخفض إلى 5 أيام، إذا كان سبب الإضراب عائدا إلى عدم أذاء أجور العاملين.
يمكن للمشغل في حالة ممارسة الإضراب خلافا لأحكام القانون التنظيمي، أن يطالب الجهة الداعية للإضراب والأجراء المضربين بالتعويض عن الخسائر والأضرار التي لحقت بالمقاولة، ويمكن لقاضي المستعجلات بالمحكمة المختصة، بعد طلب يعبر عنه رئيس الحكومة أو السلطة المكلفة بالداخلية، الأمر بتعليق الإضراب في حالة ما إذا كانت ممارسته ستؤدي إلى تهديد النظام العام أو وقف تقديم الخدمات الأساسية في حدودها الدنيا.
وعندما يتعلق الإضراب بالقطاع العام، يعين، مشروع القانون، الفئات المهنية الممنوع عليها ممارسة حق الإضراب، ويحدد تلك التي يفترض فيها توفير حد أدنى من الخدمة، حيث يجري تحديد مقدار تلك الخدمة والأجراء المكلفين بها، ويمكن استصدار أمر قضائي عند عدم التوصل إلى اتفاق حول ذلك.
ويعتبر كل مضرب متغيبا عن العمل، وتطبق في حقه العقوبات التأديبية، ويغرم كل مشغل أو منظمة نقابية ما بين 20 و50 ألف درهم، بسبب عرقلة ممارسة الأجراء حقهم في الإضراب، و يعاقب بغرامة تتراوح بين 5 و10 آلاف درهم كل أجير رفض القيام بالخدمات الأساسية أو رفض توفير الحد الأدنى من الخدمة.. وتترتب غرامات عن ممارسة حق الإضراب بطريقة مخالفة للقانون دون أن تسقط تلك الغرامات العقوبات الجنائية.
تكبيلي.. فلسفة "فاسدة"
عندما حضرت النقابات الأربع كل واحدة على حدة اللقاء الذي دعا إليه وزير الشغل، في مستهل الأسبوع الجاري، سعت بعضها إلى توضيح موقفها من مشروع القانون، وحرصت على التذكير بأن ذلك النص وضع دون العودة إليها. فميلودي موخاريق الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، يؤكد ، في اتصال مع "تيل كيل عربي"، بأن ممثلي مركزيته، لفتوا الانتباه إلى أن المشروع وضع من قبل حكومة عبد الإله بنكيران دون الرجوع إلى المركزيات النقابية، بل إنها لم تشعر بذلك، كما يقول.
هذا ما يدفع الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، كما يقول محمد العلمي الهوير، نائب كاتبها العام، في تصريح لـ"تيل كيل عربي" إلى التشديد على ضرورة سحب المشروع من البرلمان، وإعادته إلى طاولة الحوار والمفاوضات وليس التشاور كما تريد الحكومة. ذات الرأي يعبر عنه يوسف علاكوش، القيادي بالاتحاد العام للشغالين بالمغرب، الذي ينتقد عدم سحب الحكومة لذلك المشروع من البرلمان.
يذهب الهوير إلى أن الوزير يتيم عبر عن عدم إمكانية سحب مشروع القانون من البرلمان، مشيرا إلى أن تقديرات الحكومة تستند على قدرتها على تمرير المشروع، مادامت تتوفر على إغلبية يمكنها أن تسند مسعاها داك، مشددا على أن مثل هذا المنطق « مستفز »، لأنه يضرب في العمق مبدأ المفاوضات والحوار الذي يفترض أن يسبق بلورة مثل تلك القوانين.
عندما تجاوزت النقابات الملاحظات ذات الصلة بطريقة بلورة المشروع، وتناولت مضامين القانون، بدا أن أنها مجمعة على أنه " تراجعي " في نظر الاتحاد العام لمقاولات المغرب، و" تكبيلي " للحق في الإضراب، حسب الاتحاد الوطني للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، ومنافيا للحقوق التي كفلها الدستور، حسب الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
ويذهب موخاريق إلى أنه يصعب إدخال تعديلات على مشروع القانون الذي بلورته الحكومة، لأن فلسفته « فاسدة »، مادام ينطلق من رؤية ترنو إلى تجريم ممارسة حق دستور، مشددا على أن الاتحاد الذي يرأسه طالب بإعادة صياغة المشروع من قبل الحكومة والنقابات وممثلي رجال الأعمال.
وأكد عزيز الطاشي، القيادي بالاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، على أن المركزية التي يمثلها، تلح على ضرورة حذف العديد من المواد في مشروع القانون، مشيرا إلى أن النقابة التابعة لحزب العدالة والتنمية، ستقدم مذكرة تفصيلية لوزير الشغل والإدماج المهني حول رؤيتها لما يجب أنه يكون عليه تنظيم حق الإضراب، بينما أكد يوسف علاكوش، القيادي بالاتحاد العام للشغالين بالمغرب، على ضرورة إزالة المقتضيات التي تعيق ممارسة حق الإضراب.
مائدة مستديرة.. أم تشاور
لكن هل يمكن أن يفضي التشاور إلى تعديلات تستجيب لانتظارات النقابات؟ يذهب العلمي الهوير إلى أن الحديث عن التشاور حول القوانين الاجتماعية من بين الأسباب التي دفعت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل إلى عدم التوقيع على اتفاق الحوار الاجتماعي، في 25 أبريل الماضي، مؤكدا على أن مفهوم التشاور لا تكرسه المواثيق الدولية، كما أن منظمة العمل الدولية تتحدث عن الحوار الاجتماعي والتفاوض الثلاثي ولا تتحدث عن التشاور.
ويحيل الهوير على ما جاء في الدستور الذي يعين مؤسسات الاشتشارة مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، التي تعرض عليها الحكومة قضايا لإبداء رأي غير ملزم، بينما الحركة النقابية، كانت دائما قوة تفاوضية واقتراحية، لا يختزل عملها في التشاور وإبداء الرأي في قضايا تهم الفئة التي تمثلها.
وقدم الهوير اقتراحا لوزير الشغل والادماج المهني، حسب ما صرح به، يقضي بالاستفادة من تجربة مدونة الشغل، التي كانت موضوع مفاوضات بين الحكومة والنقابات ورجال الأعمال، وهي المفاوضات التي أفضت إلى توافق، قبل طرح الأمر على البرلمان من أجل المصادقة.
لكن في حال الاسترشاد بتجربة مدونة الشغل، فإن المفاوضات يمكن أن تطول، هذا في الوقت الذي ترمي الحكومة إلى إخراج القانون إلى حيز الوجود، ذلك أنها ضمنته في برنامجها الذي على أساسه كرست من قبل البرلمان؟
يجيب الهوير بأن المفاوضات كمبدأ مكرس في المواثيق الدولية، يمكن أن تنتهي بتوافق حول نقاط والاختلاف حول نقاط أخرى، وتسجل في المحاضر مواقف كل الأطراف.
ويدعو للاحتكام للدستور الذي يكفل للنقابات الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ويعلي من شأن الحريات والحق، بينما مشروع القانون يحد من ذلك، على الأقل عبر المساطير المعقدة التي يضعها أمام الحق في الإضراب، خاصة في ظل السعي لإضفاء المرونة على سوق الشغل.
هل تسحب الحكومة مشروع القانون من البرلمان وتعيده لطاولة المفاوضات عوض التشاور فقط؟ يتجلى مما رشح في اجتماع يتيم مع النقابات، أن الحكومة لا تميل لسحب المشروع، كما أنها تفضل التوصل بمذكرات وملاحظات مكتوبة من المركزيات، قبل العودة لطاولة التشاور.
يعتبر الاقتصادي محمد الشيكر، أن الحكومة، حسمت أمرها، فهي تسعى إلى تجريد النقابات من سلاح التفاوض، وتسترشد بتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين يلحان على ضرورة ضخ تشريعات تفضي إلى نوع من المرونة في شوق الشغل، بينما يرى مصدر من الاتحاد المغربي للشغل، أن انفراد الحكومة بوضع مشروع القانون، لا يمنع من إعادته إلى طاولة المفاوضات، التي يمكن أن تنتهي بتوافق حوله، كما كان الأمر بالنسبة لمدونة الشغل.