لأنه الكتاب الأخير في سلسلة "أيام زمان"، فقد حاول محمد الصديق معنينو أن يقول فيه كل شيء. لم تسعفه الأجزاء الخمسة السابقة من سلسلة شهادته على ما عاشه من أحداث في المغرب على امتداد 40 عاما ليقوله. وتراوحت مجمل صفحات الكتاب الأخير، الذي يقع في 326 صفحة، بين الحديث عن السنوات الأخيرة من حياة الحسن الثاني، وكواليس ما كان يجري في وزارة الإعلام، وعلاقة معنينو بالوزير القوي في عهد الحسن الثاني إدريس البصري. في هذه الورقة شهادات عن الأيام الأخيرة من حياة الحسن الثاني.
السنوات الأخيرة من حكم الحسن الثاني
اختار محمد الصديق معنينو، في غالبية المقاطع التي أوردها في كتابه، أن يقدم توصيفا للأوضاع الصحية للحسن الثاني عن طريق طرف ثالث، يكون شاهدا، بينه وبين الحسن الثاني لقاء مباشر.
في شهادة أولى، يقول معنينو: "حدثني أحد الفنانين المغاربة عن العلاقة الخاصة والحميمية التي كانت تربطه بالحسن الثاني، طيلة عدة سنوات...، تأتي شهادته لتؤثت لفترة تاريخية مصيرية بالنسبة للملك، إذ جرت مختلف حلقاتها، في سنواته الأخيرة، مما يعطينا مجموعة من المعلومات النادرة، عن الأجواء التي كان يعيشها الملك، وعن طريقة مواجهته للأمراض المتراكمة التي أنهكت قوته وأثرت على حياته اليومية".
هذا الفنان يقول عن نفسه بأنه كان صديقا للحسن الثاني، وكان يسهر معه كثيرا، وفي أحايين عديدة ينادي عليه الملك الراحل في منتصف الليل ليلتحق به في القصر، وكان يجالس الحسن الثاني، في الوقت الذي يكون الوزراء في الانتظار، وبينهم الوزير القوي إدريس البصري، لكن المهم في شهادته هو هذا المقطع: "في نهاية حياته، تصاعدت أزماته الصحية، ولكن إرادته الصلبة جعلته يواجه الصعوبات بكثير من التحدي. عندما تكاثرت وتنوعت الأدوية التي يتناولها، تأثر إلى حد كبير، وفي عدة مرات كان يدخل في هذيان غير مفهوم. فمرة عاتبني أمام عدد من الحضور قائلا: 'لقد بعثتك في مهمة رسمية إلى روسيا، ولم تخبرني بما يجري بعد عودتك؟...'. فهمت بسرعة أن الأدوية أثرت عليه، وأنه دخل في مرحلة ابتعد خلالها عن الحقيقة واختلطت عليه الأمور. لذلك سارعت بالقول 'الله يبارك فعمر سيدي. أعتذر سيدي وسامحني... ولن أعود إلى ارتكاب مثل هذا الخطأ...'. وانحنيت وقبلت يده.. وقلت "العفو..نعم سيدي.. أعزك الله'. لم أكن الوحيد الذي تعرض لمثل هذا الموقف، فقد حدثني أحد المقربين، أنه فوجئ بنفس الملاحظة، وأنه سارع هو الآخر إلى الاعتذار والوعد بعدم تكرار الخطأ".
ويضيف الشاهد مسترسلا في الحديث عن اللحظات الأخيرة من حكم الحسن الثاني: "قال لي الحسن الثاني وقد تفاقمت حالته الصحية: 'قربت من التعلاق"... أي من الرحيل، فانحنيت وقبلت يده، وقلت له 'أطال الله عمر سيدي'، لكنه أجابني دون تردد وبهدوء غريب 'كل نفس ذائقة الموت'".
يقدم معنينو شهادة ثانية، حول الأسابيع الأخيرة من حياة الحسن الثاني، يرويها مرة أخرى، على لسان "امعلم" سلاوي، أصبح مستشارا للحسن الثاني في الفن المعماري الأندلسي، فكان الملك يستدعيه كلما تطلب الأمر خبرة أو معلومة فريدة.
ينقل معنينو عن هذا "لمعلم" أن الحسن الثاني دعاه إلى قصر الصخيرات، الذي كان يقيم فيه كعادته في فصل الصيف: "فعلا ذهبت في الموعد المحدد، وانتظرت في خيمة كانت منصوبة هناك قريبا من المسبح. بعد حين، حضر الملك، وتقدمت مختلف الشخصيات للسلام عليه وكنت من بينها. لاحظت فورا أن الملك يتكيء على عصا، وهي أول مرة أرى فيها ذلك، كما لاحظت أنه فقد الكثير من وزنه، بحيث أصبح نحيفا. كان يمشي بتؤدة، وكأنه يخشى السقوط، لكنه، في نفس الوقت، ظل يتمتع بهيبة قل نظيرها".
يستطرد هذا "لمعلم" السلاوي "كعادتي انحنيت وقبلت يده، وتراجعت قليلا إلى الوراء، وأنا مطأطأ الرأس في انتظار الأمر الملكي. ظل الحسن الثاني صامتا لحظات ثم قال لي "آ لمعلم، وجّد المحل"... أجبت "الله يبارك في عمر سيدي"... ورفعت رأسي قليلا، وقد رسمت على وجهي ما يوحي بأني أتساءل عن معنى المحل؟ وماذا يقصد الملك بذلك؟ وماذا يقصد الملك بذلك؟ وماذا هو منتظر مني؟ كانت هذه طريقة تعاملي مع الحسن الثاني، فلم أقل له يوما إنني لم أفهم قصده أو سألته ماذا يعني أو طلبت منه أن يدقق تعليماته.
بادر الملك للقول: "عليك بإعداد المحل'، ولما لاحظ نفس التساؤل والاندهاش عبر أسارير وجهي، قال لي بصوت هاديء: 'المحل المعلوم'... ظننت في البداية أن الملك يريد مداعبتي، كما حدث بضع مرات حين كان يفاجئني بطلبات غريبة، تعكس ذوقا راقيا في البناء التقليدي، لكنه وأمام صمتي وحيرتي قال لي: 'عليك بإعداد قبري.. لقد حان الوقت...'. ويعترف محدثي: 'شعرت وكأن الملك رماني بقنبلة.
انفجرت واضطرب جسدي، وارتعشت يدي، وبدأت في البكاء، لا أدري ماذا مسني، ولا أدري ماذا أصابني، وإذا بي أرتمي على رجلي الملك وأمسك بهما وأصيح وأنا أواصل البكاء: 'أطال الله عمر سيدنا... حفظ الله سيدنا'. ظل الملك واقفا وقال لي 'كل نفس ذائقة الموت.. الصبر أ لمعلم.. الصبر والهدوء'.
بعد لحظات اضطراب، ساعدني على الوقوف، وقال لي: 'اذهب إلى الضريح وهيء المحل... والأمور بيد الله ولابد من السرية وعدم إثارة الانتباه'.
بعد موت الحسن الثاني، يواصل 'لمعلم' السلاوي 'استدعاني الملك محمد السادس بعد الدفن، وأمرني بالانكباب على الجانب التقني في إعداد القبر، وبناء غطائه من المرمرالإيطالي الأبيض، وكلفني بالذهاب إلى إيطاليا، والسهر هناك على كافة مراحل الإعداد مع احترام التفاصيل الضرورية لذلك. قبل ذهابي حرت في أمري، فقد كان وسط القباء الواسع قبر محمد الخامس، بشكله الفريد، من حيث الكبر والحجم والنقوش، وفي الركن الأيمن قبر الأمير مولاي عبد الله في شكل أقل كبر وحجما، لذلك تساءلت كيف سيكون شكل البناء المرمري الذي سيغطي قبر الحسن الثاني؟ هل سيكون في حجم قبر والده؟ هل سيكون في حجم قبر الأمير؟'.
ويتابع محدثي القول 'الملك محمد السادس حسم الأمر فأمرني أن أتخذ المقاييس التي تجعل قبر الحسن الثاني ما هو في حجم وقياس قبر محمد الخامس ولا هو في حجم وقياس قبر الأمير مولاي عبد الله، بل يكون بينهما، وبذلك يقول محدثي 'حافظ محمد الخامس على المكان المركزي، ونال الحسن الثاني، المرتبة الثانية لأنه كان ملكا'".
طبيعة مرض الملك
يخصص محمد الصديق معنينو حيزا للحديث عن طبيعة مرض الملك الذي سيكون سببا في وفاته . يقول "يوم 24 أكتوبر من سنة 1995، نادى الملك بسرعة على أطبائه، بعد أن شعر بصعوبة في التنفس، وهي وضعية أثارت قلق الملك وقلق محيطه. وكان الملك قد أصيب قبل ذلك بزكام حاد، ربما راجع لبرودة الطقس في نيويورك، وعدم اتخاذه الإجراءات اللازمة لمواجهته. استصغر المحيط الوضعية الصحية للحسن الثاني لكن الأمور أخذت تتطور بشكل غير منتظر، وبسرعة وصلت الإشاعات إلى الرباط، وتناسلت الأقوال. كل متحدث يدعي أن مصادره قريبة من القصر، وأن ما يحكيه هو الحقيقة".
يواصل معنينو "هكذا تردد أن الملك يعاني من مرض 'الضيقة'، مما يرهقه ويمنعه من الحركة ويحتم عليه المكوث في عزلة، وقيل بأن الأمر يرجع إلى صعوبة في التنفس وهو مرض كان قد أصاب والده وجده، فأرهقهما وكان نسبيا سببا في رحيلهما".
ويضيف "في تلك الأجواء المتوترة، لم تخف بعض الأوساط تشاؤمها من الحالة الصحية للملك، مرددة بنوع من الحيطة والحذر، بأنه أصيب بالمرض اللعين. هكذا عاشت الرباط يومين كاملين تقتات من إشاعات متضاربة، وهكذا تابع الرأي العام المغربي أخبار ملكه وهو في نيويورك".
سيصدر بلاغان حاولا طمأنة المغاربة حول صحة الملك ودخول إحدى المصحات الأمريكية لتلقي العلاج. بعد ذلك ستمر رحلة العودة في أجواء استثنائية . يقول معنينو: "بعد مشاورات مكثفة، تأكد أن الرحلة تكتسي نوعا من الحساسية، وأنه قد يتعرض وهو في الأجواء إلى أزمة جديدة، أو مضاعفات غير محمودة، لذلك تقرر تجهيز الطائرة بكل وسائل التدخل السريع، كما تقرر ألا تحلق عاليا، كما هو المعتاد في مثل هذه الرحلات، وأن تقتصر على ارتفاع لا يؤثر على وضعية المريض".
ذهب معنينو إلى المطار، واقترب من الملك، ولاحظ "علامات الإرهاق بادية على محياه، وربما لأول مرة اكتشفت أن الرجل نحيف، يمشي وكأنه منشغل بشيء، أو يحاول أن يتذكر شيئا... كانت عيون الحاضرين بالمطار مركزة عليه في محاولة لاستقصاء درجة مرضه، ولا شك أن الملك كان يشعر بهذا الاهتمام، وهذه المتابعة، وهذه العيون....".
يذكر معنينو مشهدا مثيرا أثناء قضاء الملك فترة نقاهة في بوزنيقة: "قيل بأن العائلة الملكية كانت تذكره باستمرار بضرورة الإقلاع عن التدخين، فكان ظاهريا يوافق على رغبتهم ولكنه كان يدخن خفية، بعيدا عن الأنظار. وتقول حكايات نابعة من كواليس القصر، إن 'حراسة' مشددة وضعت حول الملك، فكلما كان يحاول التدخين خارج البناية أو وسط الغابة، إلا وينبطح أحد المخازنية أو الحراس أمام أرجله صائحا 'على ربي أسيدي... على ربي أسيدي ...'، فيرمي بالسيجارة... هكذا تدريجيا سيخفف الملك من التدخين"...