في غمرة احتفالات المغاربة بالإنجاز الكبير الذي حققه أسود الأطلس إثر تفوقهم على المنتخب الإيفواري وتأهلهم إلى مونديال روسيا، وخروج الجماهير إلى الشوارع للتعبير عن فرحتها بكل عفوية تلقائية، خرج علينا كعادتهم في كل فرح بعض من نصبوا أنفسهم أوصياء على الخلق، وحماة لما يرونه أخلاقا، ليسفهوا تلك الجموع المحتفلة، وليعتبروا سعادتهم تفاهة وسخفا، مستعملين الأوصاف التقليدية والتحقيرية كالدهماء والعامة والغوغاء، بكل نرجسية وتعال مألوف في خطابات القوم وأدبياتهم، ويتطوع بعضهم للحديث عن المحظورات والمحرمات في مجال كرة القدم معتبرا ذلك من واجب النصيحة الملقى عليه ومن مهمات الترشيد التي لا بد له من ممارستها على "العامة".
تلك هي مشكلة الإيديولوجيات المغلقة و الماضوية؛ تعيش على هامش التاريخ بل خارجه وبعيدا عنه، لا زالت لم تستوعب إلى اليوم قدر التحولات التي عرفها الاجتماع البشري، ولا عملية تغير الموازين المحركة لعالم مختلف تماما عن النموذج الطوباوي الذي يحلمون به، وسيستمرون في الحلم به إلى قيام الساعة، لأن التاريخ لا يعيد نفسه ، ولأن التطور و التغير سنة كونية لا تتخلف.
على أن الجهل وقلة الاحتكاك بالواقع، هو من يجعل بعض هؤلاء المؤدلجين لا يدركون إلى اليوم قيمة كرة القدم، ودورها المعاصر في تعزيز قيم الوطنية والانتماء ، وفي دعم الأمن والسلام عبر ربوع العالم، فقد كانت الحرب هي اللغة الغالبة في مجال العلاقات الدولية، وكانت المعارك والمواجهات العسكرية هي مجال التنافس، فكان الانتقال مع منطق الدولة الحديثة إلى التنافس السلمي والحضاري عبر الرياضة عموما، وحولت تلك المشاعر الوطنية الجياشة التي كانت تستقبل بها الجماهير أبطال الحرب وقواد الجيوش والمثخنين في العدو إلى نجوم الرياضة وأبطال المسابقات الرياضية ومسجلي الأرقام والأهداف.
وقد نالت كرة القدم نصيب الأسد من الشعبية والمتابعة، نظرا لبساطتها وسهولة ممارستها، فلا تحتاج لمعدات خاصة ولا فضاءات معينة، فضلا عن إشباعها لكثير من الغرائز البشرية والفطرية، كحب الامتلاك والرغبة في الاستحواذ، والتسلل إلى عقر الآخر والهجوم عليه وتوقيع الهدف في عرينه ، مع تأجج مشاعر الفرح وتفجر الإحساس الداخلي حين تحقيق ذلك والوصول إليه.
ولكل هذا وغيره، لا عجب أن تنال كرة القدم كل هذا الاهتمام، وأن تجد زعماء الدول ورؤسائها يحرصون على الحضور والمتابعة، بل لا زالت الكرة منذ اختراعها محل توظيف وعناية من مختلف الأنظمة السياسية، لما استشعرته من أثرها على الجماهير، شهدنا كيف تمكن نادي اس ميلان من أن يجلس رئيسه برلسكوني على كرسي رئاسة حكومة إيطاليا، وكيف ساهمت إنجازات زيدان في دعم شيراك لرئاسة فرنسا، وكيف استغل منعم كارلوس علاقته بمارادونا لرئاسة الأرجنتين، شهدنا كيف تتناسى كل الشعوب مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية، وإخفاقاتها السياسية، وتتوحد خلف فرقها الوطنية، رأينا كيف أصبحت لحظات ترديد النشيد الوطني قبل كل مباراة عاملا من عوامل تقوية الارتباط بالوطن وتجديد المحبة له، كم رأينا في المباريات من دموع ذرفت ، وأصوات بحت ، وفاء لوطن مهما كان قاسيا على أبنائه ومحبيه.
كتب باسكال بونيفاس مؤلفه عن ( الكرة والعولمة) ، وتحدث عن أركان الدولة التي أصبحت أربعة بعد أن كانت ثلاثة: أرض وشعب وحكومة، ثم فريق لكرة القدم، ألا ترى أن الدول المستقلة حديثا تباشر بعد استقلالها مباشرة إلى طلب الالتحاق بمنظمة الأمم المتحدة ، ثم طلب العضوية بالفيفا، بل إن عدد الدول المنظمة للفيفا يتجاوز عدد الدول الأعضاء بالأمم المتحدة.
فلا غرابة أمام كل هذا الاهتمام والمتابعة الإعلامية الواسعة، أن تخصص الأموال الضخمة لمثل هذه الرياضة، وأن تصبح مجالا للاستثمار والمضاربة، وأن تكون ميزانية فريق كمدريد أو برشلونة أو مانشستر أكبر من ميزانيات دول قائمة.
لكن الإشكال الحقيقي فيما يطرحه هؤلاء المزايدون على الخلق في أفراحهم، هو ذلك التصور الذي يحملونه لمفهوم الوطنية، فليست فيما يرونه إلا صنما وجب تحطيمه، وحلما يجب هدمه، و صناعة استعمارية لا بد من محاربتها، لتعارض فكرة الوطنية مع حلم الخلافة والدولة الإسلامية التي تحكم الأمة من شرقها لغربها، وهو ما يجعل الحديث عن احتفال وطني خروجا عن الإيديولوجيا المثقلة بالأحلام والأوهام.
بل كيف تريد ممن لا زال يؤمن بمنطق دار الإسلام ودار الكفر، ودار السلم ودار الحرب، ويرى في كل مخالف له في الديانة حربيا أو ذميا أو مستأمنا، ولا زال يعيش زمن الامبراطوريات التوسعية وإن كان بيننا، أن يستوعب أهمية كرة القدم ودورها في دعم قيم التعايش بين الأمم والحضارات والأعراق والأجناس والأديان المختلفة.
بل أكثر من ذلك، كيف تريد ممن لا يعترف بكل الصور الفنية، ولا يدرك قيمة الفن في تأثيت الحياة، أن يتذوق ما تسطره أرجل اللاعبين على الميدان من لوحات فنية وإبداعات إنسانية، فما تتركه مراوغات مارادونا، أو فلتات رونالدينو ،أو أهداف ميسي ، أو تمريرات زيدان، من انعكاس جمالي على النفوس، لا يقل روعة ولا تأثيرا عن لوحة لدافنشي أو مقطوعة لبتهوفن، أو لقطة تمثيلية لتوم هانكس، الكرة أحد فنون العالم اليوم، وأحد تجليات الإبداع البشري.
لقد كانت لحظة خروج الجماهير للاحتفال بفوز فريقها الوطني محطة مهمة لأخذ العبرة والدرس، فقد كان فرحا جماعيا، مفعما بالعفوية والتلقائية، لم تسجل فيه رغم حجم الجمهور واختلاف مستوياته، حالات تحرش معهودة في يومياتنا، ولا أخبار اعتداءات وسرقة ونهب مألوفة عندنا، لقد استطاع الفرح أن يرتقي بسلوكاتنا، وأن يعيدنا إلى مستوى القيم المتناسب مع أخلاقياتنا وتربيتنا، وليعلمنا بأن غياب الفرح ،والإحساس بالانتماء ، وضعف منسوب الوطنية، هو ما يولد الانحراف ، ويصرف الطاقة المخزونة إلى ما ليس من مصلحة الوطن ولا مواطنيه.
شكرا إذن لكرة القدم التي أنتجت كل هذا الفرح، وخاب سعي كل من يريد أن يغتال فينا هذه الفرحة، ممن هم خارج التاريخ، بل خارج الحياة بأكملها، وللحديث بقية.