دعا المفكر عبد الله العروي إلى تخصيص الكرسي، الذي يحمل اسمه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، والذي أنُشئ بتعاون مع معهد العالم العربي بباريس، للترجمة والتأويل.
والواقع أن العروي قدم، في محاضرته الافتتاحية للكرسي، يوم الأربعاء 08 يناير 2020، مادة خصبة لاشتغال الكرسي، ومواضيع لأطاريح جامعية.
التمييز بين الموظف/الأستاذ والمفكر
انطلق العروي، في محاضرته التي ضاق بحضورها مدرج ابن خلدون، من أن أفكاره، أقل ما يُقال عنها، إنها خلافية ولم تكن، في وقت من الأوقات، محل إجماع أو توافق.
ذكّر العروي بأن أفكاره، أقل ما يُقال عنها، إنها خلافية ولم تكن، في وقت من الأوقات، محل إجماع أو توافق.
وأوضح المفكر النادر الخروج في محاضرات بأنه طيلة العقود الثلاثة ونصف التي درّس فيها بالكلية ذاتها التي تحتضن كرسيه، وأن الطلبة الذين استمعوا إلى محاضراته يعلمون كلهم أنه كان دائما حريصا على التمييز بين واجبه "كموظف في خدمة الدولة والمجتمع، أي كأستاذ تاريخ، عاما كان أو خاصا بالغرب الكبير أو الأقصى، أهمّ عرض الأحداث وتمحيصها أم توضيح مناهج البحث وتفصيلها" وبين عمله "كمفكّر يتعاطى" ما سمّاه "النقد الأيديولوجي، كما يتعاطى" غيره "قرض الشعر أو حل ألغاز الرياضيات"، على حد تعبيره.
وقال "لم يحفظ عنّي قط أني عرضت، في قاعة درس، أيّا مما جاء في 'الأيديولوجيا العربية المعاصرة' أو في سلسلة 'مفاهيم'. هذه كتب نُشرت في الخارج، عُرضت ونوقشت فيه، أكثر مما عُرضت ونوقشت هنا في المغرب. أما الكتب التي كانت من صميم مهمتي كمؤرخ؛ أعني 'مجمل تاريخ المغرب'، 'دراسات تاريخية'، 'أصول الوطنية المغربية'... إلخ. فهذه، عكس الأخرى، لقيت استحسانا من طرف الأغلبية الكبرى من القراء. وإن هي نوقشت، فكان ذلك على أساس علمي عادي بين الزملاء المهتمين بالموضوع".
وظائف الكرسي
بعد التمييز الذي حرص العروي على التأكيد عليه، انبرى لتحديد دور الكرسي، الذي "هو بالأساس مجال للتباحث والتدارس لمناقشة مفاهيم وإشكالات" ارتبطت باسمه "في السنوات الأخيرة"، قبل أن يضيف أنه "فضاء يوفر المراجع والوثائق والمستندات التي تساعد على تحديد وتوضيح وتقييم تحليلات ونظريات" تقدم بها "في ظروفها وحدودها". وهي "تحليلات وإشكالات واجتهادات ترتبط بالتاريخ، بالتطور والجمود، بالتقدم والتخلف، بالاستمرارية والقطيعة، بالعقلانية واللاعقلانية، بالاستقلال والتبعية، باللغة واللهجة، بالدولة والفوضى، بالثقافة والفولكلور... إلخ".
وطرح أسئلة قد تكون موضوع تباحث وتدارس من قبيل: لماذا اختار تلك المفاهيم بالذات؟ هل انفرد بطرحها أم سبقه إلى طرحها غيره، في السياق ذاته ومن الزاوية ذاتها، أم من منظور مختلف؟ مفاهيم يقول إنها مرتبطة بمشكلات معينة، ليتساءل: هل ما زالت تلك المشكلات قائمة، أم أصبحت متجاوزة؟ إن كانت لاتزال قائمة، فيطرح هل يجب تمحيصها مجددا، في إطار تظافر وتكامل اختصاصات شتى، من تاريخ واقتصاد واجتماع ولغة؟ ليؤكد أنه "يجب، حينئذ، إعادة تعريف المفاهيم وتجديد الأساليب البيانية"، ليخلص، على هذا المستوى، إلى لأنه "من هنا، أهمية النقل والترجمة".
وقبل أن يعود إلى النقل والترجمة، في آخر محاضرته، استمر في طرح الشق الثاني المتعلق بالمشكلات التي ترتبط بها المفاهيم السالفة الذكر، وإن كانت قد أصبحت متجاوزة، ليتساءل: بأي معنى يكون التجاوز؟ هل بمعنى أن المشكلات المتناولة وجدت طريقها إلى الحل، أم أنها فقدت راهنيتها في المحيط الحالي؟ ليقف عند أمثلة ثلاثة.
1. الدولة الوطنية
بالنسبة لهذا المثال الأول، قال إنه قد يقال له، في كلام موجه إليه "كمؤلف"، "أطلتَ الكلام عن الدولة الوطنية أو الدولة القومية. كل أطروحاتك عن التاريخية، التخلف، القطيعة، الإصلاح، ترتكز على هذا المفهوم، وعليه وحده، لكن اليوم، في المجتمع الحالي، ماذا تعني اليوم الدولة الوطنية ونحن نراها، في كل بقاع الدنيا، ونحن نراها، إما تتفكك وإما تُسلب من كل فاعلية أو نفوذ؟ كل أزمات الأرض تُختزل في انحلال الدولة القومية. الانتماء اليوم هو للعرق، للمذهب، للقبيلة، لا للدولة، كما تمثلت في فرنسا الثورية. يبدو وكأن المستقبل هو، على الأرجح، للسلطة القبلية أو للفيدراليات الهشة"...
2. ابن خلدون والتدوين
ذكر العروي في المثال الثاني أنه قد يقال له إنه أثنى في مناسبات عدة على ابن خلدون، "لأنه أولى أهمية كبرى لما سمّاه عملية التدوين؛ أي نقل ثقافة شفوية إلى ثقافة مكتوبة، فشيد صرح علم العمران، على هذه النقطة".
وقد يقال إنه ذهب "إلى القول إن تأخرنا يعود إلى أننا وقفنا عند هذا الحد، ظنا منا ألا ثورة بعد ثورة التدوين، فلم ننتبه إلى ماحصل في أوروبا، أواسط القرن الخامس عشر، باختراع الطباعة، التي كانت بمثابة ثورة تدوينية ثانية". "بل ذهبتَ"، في الخطاب الافتراضي الموجه إليه كمؤلف "إلى أبعد من هذا، حيث فسرت نجاح الآسيويين بكونهم كانوا مهيئين للثورة التحديثية باختراعهم، قبل الأوروبيين، لنوع ما من الطباعة: آلة النسخ". ليقول "إن هذه نقطة نتركها بين أيدي المؤرخين ليفصلوا فيها إن أمكن ذلك". و"لكن حتى لو صحت، أي أهمية لها في عالم اليوم، حيث تعود بقوة الثقافة الشفوية وحيث يمر الكتاب بأزمة خانقة. قد تكون الثورة المعلوماتية والرقمية لاحقة تابعة زمنيا لثورة الطباعة، لكنها جاءت معاكسة لها وقضت على الكثير من نتائجها، فاختفى بذلك العديد من العراقيل والعوائق التي أطلت فيها الكلام. ربما نواجه اليوم مشكلات أكبر وأعوص من مشكلات الأمس، لكنها غير التي شغلت بالك سنين طويلة وجاهدت في تصور حلول لها"، يضيف المفكر ضمن الأسئلة المفترضة الموجهة إليه.
3. طوبى الفقهاء والمتصوفة
وذكر العروي أنه قد يقال له ثالثا "أثنيت على ابن خلدون في مقام آخر؛ يتعلق بجانب الواقع البراغماتي من فكره، مقارنة بما سمّيته 'طوبى الفقهاء والمتصوفة'، لكن في عالم اليوم، ماذا يعني الواقع؟"، ليجيب بأن "الواقع، في المتعارف، حتى الآن، هو المحسوس، ما يُرى، ما يُسمع، ما يُلمس. فإذا بنا نرى ونسمع ما نعلم أنه غير موجود ماديا. لا نتوفر، إلى حد الساعة، على حاسة تمكننا من التمييز بين المعقول والمبهوم. بل، في حالات كثيرة، أصبحنا نفضل الوهم ونتعلق به. إذن، فما فائدة الواقعية التي ما فتأت تدعونا إليها في الفكر، في السلوك، في التعبير والإبداع؟".
وأوضح المفكر أنه أورد "كل هذه الاعتراضات، وكلها وجيهة، لا لدحضها، على الفور"، مؤكدا أن "المقام ليس هنا مقام ومناظرة". وقال إنه أوردها كمثال لما يمكن أن يطرح للنقاش في نطاق الكرسي. وأوردها لكي يشير إلى أن "هدف الكرسي ليس نشر إيديولوجيا بعينها، بقدر ما هو تدارس مسائل راهنة ومتجددة".
ثلاث مسائل راهنة
وأعطى المفكر نماذج ثلاثة لهذه المسائل الراهنة والمتجددة، وقدمها على الشكل التالي:
1. "نلاحظ بالفعل أن الدولة القومية لم تعد مقنعة، وأن الدولة الوطنية لم تعد مزجية، فنطرح السؤال المقلق: ما البديل؟ أهو اللادولة؟ أهو الدولة الأممية التي تخيلها فلاسفة القرن الثامن عشر الأوروبي؟".
2. "نلاحظ بالفعل أن الأمية الرقمية قد تكون أسوأ من الأمية الحرفية، لكن ما الفرق؟ ما العلاقة بين الحالتين؟ هل محو الأولى يعفي من محو الثانية؟ أم بالعكس، هل محو الثانية شرط لمحو الأولى؟ الجواب ليس سهلا ولا بينا ولا يكفي فيه استشارة متخصص بعينه".
3. "هذا الواقع الافتراضي الذي يغشانا ويذهلنا، هل هو من نتائج العلم العقلاني التجريبي أم من هو من عمل سحرة موسى؟ المتوهم هل هو فعلا غير المعقول؟ بمعنى آخر، هل المجتمع غير الحداثي يستطيع أن يتصور واقعا افتراضيا. المجتمع غير الحداثي أنشأ، في الماضي وتلقائيا، قصص السحر والمغامرات، رسم عوالم الغرائب والعجائب، لكنه، تحت ظل الحداثة، لم يبدع قصص الخيال العلمي...".
"هذا الواقع الافتراضي الذي يغشانا ويذهلنا، هل هو من نتائج العلم العقلاني التجريبي أم من هو من عمل سحرة موسى؟"
وخلص العروي، على هذا المستوى، إلى أنه "لا خلاف، إذن، في أن إشكالات اليوم ليست هي إشكالات وسط القرن الماضي"، مؤكدا على أن "هذه النقطة هي التي يجب أن تناقش بجد ومن عدة أوجه". وزاد أنه "لاخلاف أيضا في أن هذه الإشكالات الجديدة، التي تواجهنا، اليوم، تولدت في إطار معروف، هو إطار الدولة الوطنية والإنتاج الصناعي والعقلانية الواقعية. فلا يُتصور أن تفهم، أن تدرس، أن تعالج في إطار عتيق، إطار اللادولة، إطار العمران البدوي، إطار العلوم الغيبية..."، مشددا على أن "كل إشكال يُطرح في نطاق: أين ومتى؟".
وذكر أن ذلك ما حاول توضيحه في كتاب "بين الفلسفة والتاريخ"، الذي حرره بالفرنسية وعرّبه عبد السلام بنعبد العالي. وهو المدخل إلى موضوع الترجمة والتأويل الذي أراده تخصصا للكرسي الذي أصبح يحمل اسمه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
الترجمة والتأويل
قال العروي، في هذا السياق، "مارست الترجمة، وأعرف مكامنها ومزالقها. يحرص المترجم ألا يقحم ذاته في ما يترجم، وأن يظل وفيا، قدر المستطاع، لأسلوب المؤلف، فيؤدي المعنى، كما جاء في النص. لكن، أنا، عندما أقوم بترجمة نص كتبته، أشعر بما لا يشعر به غيري، إذ أستعيد في الغالب الفكرة التي أردت التعبير عنها بالفرنسية، ثم أحاول أن أعبر عنها، هذه المرة، بالعربية، فأرى بوضوح أن العبارتين تختلفان". وأعطى عن ذاك مثالا واحدا هو لفظ "Erudition"، في أحد مقاطع الكتاب المشار إليه تكلمت على طلبة المشرق الوافدين على باريس لدراسة الفلسفة وقلت إنهم عندما يصلون إلى صف الدكتوراه، لا يجدون منفذا سوى القيام بأعمال تسمى "Travaux d’érudition". كيف نعرب هذا النعت؟ يتساءل المفكر ويجيب بأن "القاموس العادي يعطينا 'متبحر، مدقق، محقق، عالم'"، لكن المعنى الذي قال إنه أومأ إليه يشير إلى الاهتمام بجوانب هامشية من مسألة ما، وذكر كمثال دراسة عن سبينوزا والإسلام، وهي دراسة قال "إنها طويلة نسبيا، أخذت من الباحث وقتا غير قصير، وفي النهاية تحدثنا لا عما كتب الفيلسوف فعلا عن الموضوع، بل عما لم يكتب، علما أنه كان يعرف حق المعرفة موسى بن ميمون (Maïmonide)، الناشئ في الأندلس الإسلامية، فالسؤال الذي طرحه الباحث: لماذا سبينوزا، بمعرفته وعلاقته بموسى بن ميمون، لم يتكلم عن الإسلام؟ القول إن هذا العمل الشاق يدخل في خانة البحوث المنعوتة بالنعت المذكور (Travaux d’érudition). يحمل حكما سلبيا إن لم يكن قدحيا. تمدنا الدراسة بمعلومات صحيحة، موثقة، لكن فائدتها هزيلة وربما منعدمة. أي لفظ عربي يؤدي هذا الإيحاء؟".
وانتقل إذن إلى اللسان العربي، وأوضح "الأقرب إلى ما نعني بلفظ 'érudit' في الاتجاه الذي ذكرت هو لفظ 'عالم'. من هو العالم في الثقافة العربية القديمة؟ وهنا أيضا قاموس الاشتقاق لايفيد، بدليل أن المترجم إلى لغة أوروبية يواجه الصعوبة ذاتها التي واجهتنا، فيترك الكلمة على حالها، ويقول 'un alem' و'des oulémas'. لا بد من الغوص في التاريخ الثقافي الإسلامي والبحث عن نشأة المصطلح (عالم). من هو العالم قديما؟". ويجيب "لا يسمى عالما كل من له اطلاع واسع في ميادين شتى. نندهش لما نكتشف أن كثيرا من العلماء لا يعترفون بعلم الغزالي لأنه لم يكن يتقن علم الحديث، باعترافه هو، وكذلك ابن خلدون، لم يعتبر في الشرق أنه عالم مقارنة بابن حجر مثلا. العالم في الاستعمال القديم يدقق أيضا في الجزئيات، لكن لأغراض فقهية مضبوطة، ليس هنا محل تفصيلها، إذن حسب تطور المصطلح في الحالين، لفظ عالم هو الأقرب إلى مؤدى لفظ 'érudit' رغم هذا التقارب، من الواضح أنه لا يمكن أن نعرّب هذا بذاك لسبب غياب الجانب السلبي التحقيري الموجود في حال 'érudit' والغائب في حال 'عالم'. وما نقول عن هذا اللفظ البسيط، نستطيع أن نقوله عن مفردات أخرى، أكبر أهمية، مثل 'raison'، هل تقابل فعلا لفظ 'عقل' المسجل في القاموس، كذلك 'tradition" هل تقابل فعلا كلمة 'تقليد'. وفي اللسان العربي هل كلمة 'عمران' تقابل فعلا 'culture' أو 'Civilisation'؟ علما أن كلتي الكلمتين لا تؤديان المعنى ذاته في الفرنسية والألمانية".
ما هي الغاية من هذه الملاحظات؟ يرد بما كتبه في "بين الفلسفة والتاريخ"، حيث يقول "ليس مشكل نقل لغة إلى الأخرى حديث العهد عندنا. لقد وصلت الفلسفة الإغريقية إلى المسلمين في صورة مشوهة ونادرا ما كانت الترجمات الأولى المعيبة تُصحح في ما بعد. من غير المستبعد إذن أن نجد أنفسنا بعد قرن أو اثنين في الوضع نفسه، فأولئك الذين هم منا أكثر اطلاعا على الفلسفة الغربية هم، في الوقت ذاته، أقلنا تأهيلا لنقلها إلينا. خطأنا الكبير في الماضي وفي الحاضر وما يدعوني إلى بعض التشاؤم هو أننا نظن أن النقل يتم مرة واحدة في حين أن الترجمة، لكي تكون مثمرة، عملية مستمرة. لا يمر عقد في الغرب دون أن تصدر ترجمة جديدة لأرسطو أو لغيره من كبار المفكرين القدامى، بل تشيد فلسفات جديدة على إثر إعادة ترجمة مفردة أو مجموعة من المفردات"...
وأوضح أنه قبل الترجمة هناك تأويل للمعنى، وأوضح أن الرومان عندما أرادوا اكتشاف الفكر اليوناني وجدوا صعوبة كبرى لأن اللغة اللاتينية لم توافق بالضرورة وبمعنى حاسم المفاهيم التي تعبر عنها الألفاظ اليونانية. وقال إنه جرب ذلك عندما نقل مونتيسكيو وروسو إلى العربية، وفي الاتجاه المعاكس عندما نقل ابن خلدون من العربية إلى الفرنسية.
مزالق الترجمة
ودعا العروي إلى تأمل الترجمة التي وصفها بـ"المرتبكة" في حالي مفهوم "Laïcité" الذي عرب في البداية بـ"لادينية" لأسباب ظرفية، وتساءل ماذا كان يحصل لو كان المعرب على اطلاع بتاريخ المفهوم في أوروبا المسيحية أو لو انطلق من الإنجليزية عوض الفرنسية وعرض لفظ "Secular" بـ"دنيوي"، أما كان المفهوم حينئذ ينفصل عن "اللادين" ويتخذ النقاش حول المسألة مسارا آخر؟
تساءل العروي عن ترجمة مفهوم "Laïcité" الذي عرب بـ"لادينية": ماذا كان يحصل لو كان المعرب على اطلاع بتاريخ المفهوم في أوروبا المسيحية أو لو انطلق من الإنجليزية عوض الفرنسية؟
ويزيد أن لفظ "دارجة"، الذي يعني في استعمال البعض "اللغة الوطنية المغربية"، معرب من الفرنسية "courant" الجاري عند الفرنسيين منذ احتلال الجزائر، حيث كانوا يميزون بين اللغة العربية المكتوبة، لغة المتعلمين "arabe littérale" و"arabe courant"، لغة الأميين. وتساءل مرة أخرى: "ماذا كان يحصل لو فعل هؤلاء المترجمين كأهل المشرق أو كقدماء النحاة وقالوا لغة عامية أو لغة العوام، أما كان النقاش هنا أيضا يأخذ منحى آخر أكثر فائدة وجدية. لو اجتهد من يتكلم في هذا الموضوع الحساس وبحث عن أصل التباعد بين المكتوب والملفوظ، ليس في العربية وحسب، بل في معظم لغات الأرض لاتضح له أنه وجد في الماضي، يوجد حاليا، وسيوجد مستقبلا فرق يدق أو يتفاقم بين المكتوب المدون المرسّم وبين المنطوق الحر المتشعب، والذي إذا دُون ورسم لا يلبث أن يتجزأ بدوره إلى مكتوب وملفوظ لكل واحد من الاثنين مقامه ومجاله".
وأضاف العروي "هذا ما يعرفه جيدا المتحدثون بالإنجليزية، يقبلونه ويتعايشون معه، في أماكن مختلفة من الدنيا ويتعامى عنه غيرهم لأسباب عارضة خاصة بهم".
وشدد على القول "أقول ما أقول لا لإثبات أن كل شيء على ما يرام في نظامنا التربوي والثقافي، بل بالعكس، كنت دائما ولا أزال أدعو إلى إصلاح شامل في هذا المجال، خاصة اللغوي. لكن هذا لا يمنعني من التنبيه إلى أن النقاش قد حاد عن الطريق السوي، لأنه انطلق من سوء تأويل لمفهوم عبر ترجمة غير دقيقة".
"أقول ما أقول لا لإثبات أن كل شيء على ما يرام في نظامنا التربوي والثقافي، بل بالعكس، كنت دائما ولا أزال أدعو إلى إصلاح شامل في هذا المجال، خاصة اللغوي".
وقال، في السياق ذاته، "كل ترجمة تأويل ولا أحد يملك، من البدء، التأويل الصحيح قطعا وبما أن التفكير ينبني على تصور واستحضار، يكفي أن نرتكب ولو خطأ بسيطا لنتيه في سجال عقيم لا حد له. لابد حينئذ من العودة إلى الأصل لإعادة النظر في الترجمة باعتماد تأويل جديد. بما أن الترجمة تأويل فردي أو جماعي فلا مفر أن تكون عملية متواصلة متجددة. التفكير؛ أي التأمل والتمعن، هو بالأساس تأويل، انتقال من مجال معنوي إلى مجال آخر، أعلى أو أسفل، أعم أو أخص، أشمل أو أدق. وبما أن التفكير تأويل فهو إذن ترجمة، حتى في نطاق اللغة الواحدة؛ إذ لا توجد أداة لغوية لا يتواجد فيها القديم والدخيل، المشتق والمستعار، الجامد والمتحرك. لا ننفك نترجم عندما نناجي أنفسنا ونحاور غيرنا. ولا ننفك نترجم بشكل أوضح وأدوم عندما نتأمل، نتمعن، نفكر. لا تفكير جدي وعميق دون تأويل ودون ترجمة".
وختم المفكر كلمته باقتراح، بقوله "لقد أعطينا اسما لكرسي يلحق ببرنامج كلية الآداب، ياحبذا لو أعطينا، في الوقت ذاته، للاسم مسمى وهو كرسي للترجمة والتأويل".