أفاد أمين سامي، خبير الاستراتيجية وقيادة التغيير للشركات والمؤسسات والاستراتيجيات التنموية، اليوم الأحد، في تصريح لـ"تيلكيل عربي"، بأنه لم يكن متوقعا لتطبيق "DeepSeek" الصيني كل هذا النجاح الباهر"، مسجلا أن "هذا التنين أصبح يجري بسرعة جنونية، لا قدرة للأفراد، ولا للمؤسسات، ولا حتى للدول، على مجاراتها".
وأوضح سامي أن "التكنولوجيا الكامنة وراء "DeepSeek" تمثل قفزة نوعية في بنية أنظمة الذكاء الاصطناعي؛ حيث تجمع هذه الأخيرة بين عدة عناصر فريدة من نوعها. أولا؛ قوة حوسبية غير مسبوقة؛ إذ يعتمد التطبيق على 2,000 رقاقة معالجة متخصصة (NPUs)؛ مما يمنحه قدرة على معالجة 340 مليار عملية/ثانية، متفوقا بذلك على منصات؛ مثل "ChatGPT-4" (المُقدرة بـ220 مليار عملية/ثانية). ثانيا؛ كفاءة اقتصادية؛ حيث بلغت تكلفة تطويره 5.6 مليون دولار فقط، مقارنة بمشروع "GPT-4" الذي استهلك حوالي 100 مليون دولار؛ مما يعكس نموذجا استثماريّا صينيّا يرتكز على "التكلفة الذكية". ثالثا؛ انتشار عالمي، من خلال دعمه لـ50 لغة؛ ما ساهم في اجتذاب 180 مليون مستخدم نشط، خلال 6 أشهر من الإطلاق، 45 في المائة منهم خارج الصين، وفقا لبيانات "Sensor Tower".
وسجل المتحدث نفسه أن "تطبيق "DeepSeek" أثبت قدرته على إعادة تشكيل التوازنات المالية في قطاع الذكاء الاصطناعي؛ حيث ساهم في انهيار قيم السوق، وتسبب في خسائر فادحة للشركات الغربية؛ منها انخفاض سهم "إنفيديا" بنسبة 18 في المائة (خسارة 560 مليار دولار في يوم واحد)، وتراجع مؤشر "فيلادلفيا لأشباه الموصلات" بنسبة 10.3 في المائة (الأكبر منذ سنة 2022)، فضلا عن تسببه في خسائر بقيمة 23 مليار دولار لشركات أوروبية؛ مثل "ASML" و"ARM".
وتابع سامي أن "تقديرات "Bloomberg" تشير إلى توجيه 72 في المائة من صناديق الاستثمار الصينية نحو شركات الذكاء الاصطناعي المحلية، خلال سنة 2024، مقارنة بـ58 في المائة، في سنة 2023"، معتبرا أن "تطبيق "DeepSeek" يعكس رؤية صينية لدمج التكنولوجيا مع المبادئ الفلسفية؛ مما يخلق نموذجا تنافسيّا مختلفا عن باقي التطبيقات الأخرى".
كما أبرز أن "كل هذا يجسد عدة مبادئ. فعلى مستوى مبدأ التناغم مع الطبيعة؛ يعتمد على خوارزميات مفتوحة المصدر تسمح بـ"تطور عضوي"، مع معدل تحديث يصل إلى 4 نسخ/شهر، مقابل 1-2 نسخة/ربع سنة في المنصات الغربية. وعلى مستوى مبدأ التوازن بين الإنسان والآلة، يُقلل التطبيق من نسبة الأخطاء في التحليل السياقي إلى 0.7 في المائة، مقارنة بـ2.1 في المائة في نماذج الغرب، وفقا لاختبارات "Stanford HAI". بينما على مستوى مبدأ الأخلاقيات الكونفوشيوسية، يدمج "DeepSeek" نظام مراجعة مزدوج (AI + مُشرف بشري)؛ حيث يفحص 100 في المائة من المخرجات قبل نشرها، مقارنة بـ30 في المائة في النماذج الأخرى".
واستنتج الخبير: "وبالتالي، تشير الاتجاهات الحالية إلى تحولات جذرية في العالم التكنولوجي ورسم الخريطة التكنولوجية، خلال العقد القادم"، من خلال "تراجع الهيمنة الغربية؛ حيث من المتوقع أن تصل حصة الصين من سوق الذكاء الاصطناعي العالمي إلى 38 في المائة، بحلول سنة 2030 (مقابل 22 في المائة، في سنة 2023)، وفقا لـ"McKinsey"، و"تغير سلاسل التوريد؛ حيث قد تتحول 60 في المائة من إنتاج الرقائق عالية الكفاءة إلى آسيا مع نمو شركات؛ مثل "SMIC" الصينية، التي تخطط لزيادة إنتاجها بنسبة 200 في المائة، بحلول سنة 2025"، و"صراع المعايير؛ حيث ستتسع الفجوة بين معايير الذكاء الاصطناعي "المُمركزة على الإنسان" (الغرب) و"المتكيفة مع النظام المجتمعي" (الصين)؛ مما قد يؤدي إلى انقسام السوق التقني إلى كتل متمايزة".
وبالتالي، يضيف سامي، "لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية، بل أصبح أداة جيوسياسية تعكس صراع القيم والنماذج الحضارية"، موضحا أن نجاح "DeepSeek" يشير إلى "نهاية عصر القطب الواحد؛ إذ بحلول سنة 2027، قد تفقد الولايات المتحدة 45 في المائة من حصتها السوقية في قطاع التكنولوجيا المتقدمة لصالح الصين"، و"صعود نموذج التكنولوجيا المتوازنة؛ إذ من خلال الجمع بين الكفاءة والأخلاقيات، سيكون معيارا جديدا، مع توقعات بانتشار 500 مليون جهاز مدعوم بالتطبيق الصيني، بحلول سنة 2026"، فضلا عن "إعادة تعريف الابتكار؛ حيث يتبين أن التركيز الصيني على التكلفة المنخفضة والتكيف الثقافي قد يُعيد هيكلة أنظمة الابتكار العالمية، مع زيادة الاستثمارات الصينية في البحث والتطوير "R&D" إلى 400 مليار دولار سنويّا، بحلول سنة 2025".
كما سجل الخبير الاستراتيجي: "وبهذا، فإن "DeepSeek" ليس مجرد تطبيق، بل نموذج لـ"القوة الناعمة" التكنولوجية التي تعيد رسم خريطة العالم بموازين جديدة. إنه يكتب فصلا جديدا من تاريخ الصين، ليس بالحرير و البارود، بل بالبيانات والخوارزميات".
ومن الناحية الفلسفية، قال سامي إن "التنين الصيني يختار التوقيت المناسب قبل الهجوم. فاستراتيجية الصين نابعة دائما من أصولها وثقافتها وقيمها، من خلال التناغم مع الطبيعة، والتوازن بين الين واليانغ، وأخيرا قيم الكونفوشيوسية".
وأبرز الخبير الاستراتيجي أن "التنين الصيني يقوم بالانتظار قبل الهجوم"، موضحا أن "الصين لا تهاجم أسواق المنافسين مباشرة، بل تنتظر الفرصة المناسبة. كما أنها تسعى إلى السيطرة على الموارد، من خلال السيطرة على سلاسل التوريد العالمية والمواد الأولية".
وأشار إلى "التنين الصيني مرن في التحرك، من خلال التكيف مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى قدرته على إبهار الفريسة بدلا من خنقها، من خلال استخدام القوة الناعمة بدل المواجهة المباشرة".
وأضاف سامي أن "تطبيق "DeepSeek" يمثل الفلسفة الصينية، من خلال قيم التناغم مع الطبيعة، والتوازن بين الين واليانغ، وأخيرا قيم الكونفوشيوسية"، موضحا: "أولا؛ على مستوى قيم التناغم مع الطبيعة، الذكاء والفكر جزء من توازن الطبيعة. فهذه الأخيرة متجددة دائما وتتكيف مع الظروف المناخية، فهي نموذج عضوي للتعلم المستمر. وفي هذا الإطار، يعتبر التطبيق الصيني مفتوح المصدر؛ مما يجعله في بيئة تقنية وديناميكية متجددة دائما. كما أن هذا الأخير نموذج عضوي للتعلم والمعرفة. فهو لا ينتج المعرفة، بل يتعامل مع السياق. وبالتالي، فهو يحدث توازنا بين التكنولوجيا والإنسان والطبيعة".
وتابع أن "الطبيعة تستخدم المنطق الطبيعي، نفس الشيء يقوم به "DeepSeek"؛ يستخدم المنطق الطبيعي في مراجعة الاستنتاج قبل الإجابة النهائية، والتكيف مع المتغيرات".
وعلى مستوى التوازن بين الين واليانغ، أوضح الخبير أنهما "يمثلان التوازن للقوى المتعاكسة؛ فتطبيق "DeepSeek" يكمل عمل الإنسان ويعزز التفكير البشري، من خلال السرعة والدقة التحليلية. لكنه، في المقابل، لا يعمل بدون تدخلات بشرية. فهذا الأخير يعتبر أداة أكثر توازنا بين المنطق والإبداع، على عكس النماذج الغربية التي تركز على قوة البيانات. فالتطبيق الصيني يوازن بين الحسابات المنطقية والإبداع والتفاعل مع السياق".
أما على مستوى قيم الكونفوشيوسية، فأوضح سامي أنها "ترتكز على ثلاث مبادئ أساسية؛ هي: التناغم المجتمعي، والأخلاق، والتعلم المستمر. فعلى مستوى التناغم المجتمعي، تعتبر التكنولوجيا وسيلة وليست غاية. وبالتالي، يجب أن تكون التكنولوجيا في خدمة الإنسان وليس العكس، وهذا ما يجعل التطبيق الصيني ذكاء اصطناعيا أكثر إنسانية وتعاونا، كما أنه يوازن بين المنطق والإبداع؛ مثل الين واليانغ؛ الشيء الذي يجعله شريكا فكريا يدمج الفلسفة مع التكنولوجيا. أما على مستوى الأخلاق؛ فالكونفوشوسية توازن بين الحكمة والعلم. وبالتالي، التفكير العميق قبل اتخاذ القرار، وهذا ما يفسر تطبيق "DeepSeek" المراجعة المنطقية التي يقوم بها قبل إعطاء الإجابة، بدلا من ردود عشوائية. وأخيرا، المدرسة الكونفوشيوسية تعتبر أن التعلم لا حدود له، ومادمت في الحياة، فأنت تتعلم باستمرار في أي وقت وفي أي لحظة. وبالتالي، فالتطبيق يتعلم ويتطور باستمرار، من خلال المحادثات والتدخلات البشرية. وبالتالي، فنحن لسنا أمام تطبيق للذكاء الإصطناعي، بقدر ما نحن أمام انعكاس للثقافة والفلسفة الصينية على التكنولوجيا".