في الجزء الأول من هذا الحوار مع محمد برادة، رئيس اللجنة العلمية التي تتولى الإعداد للمناظرة الوطنية للجبائية، جرى التشديد على أن الجباية ليست سوى أداة من أدوات التنمية، والتي يفترض وضعها ضمن تصور شامل، يستحضر التربية والحكامة والروابط الاجتماعية وأولويات السياسية الاقتصادية ومدى اتجاهها نحو تغليب القطاعات الإنتاجية، التي توفر فرص عمل دائمة، مقلصة دائرة البطالة والفوارق الاجتماعية.. في الجزء الثاني والأخير من هذا الحوار، مع برادة الذي سبق له أن كان وزيرا للمالية في الثمانينات من القرن الماضي، نتعرف على الاختلالات التي تعتري النظام الجبائي المغرب والتصور الذي يمكن من المساعدة على مساهمة الجبائة في توفير الشغل ومحاربة الفوارق بالمغرب.
كيف يمكن عبر سياسية جبائية تجاوز الاختلالات التي أشرتم إليها، في الجزء الأول من هذا الحوار، على صعيد الرؤية الاقتصادية للمغرب؟
ما يحفز النمو اليوم بلدنا، هو الطلب الداخلي؛ أي الاستهلاك الخاص والعمومي، وهذا الطلب يتوجه للإنتاج، غير أنه ليس إنتاجا محليا، بل أغلبه مستورد. يجب أن نحد من الاستيراد، وندفع في اتجاه الإنتاج المحلي الذي سيخلق الشغل والدخل. يجب الانتفال من نموذج قائم على الطلب إلى نموذج مستند على العرض. لا أحد يتحدث عن هذا الأمر، وأنا أريد من الناحية الجبائية، تشجيع كل شخص، ينجز اسثمارات تخلق فرص العمل،والتي تكون لها تأثيرات على القطاعات الأخرى.
في المهن الحرة هناك من يؤدي ضريبة أقل من أولئك الذين يعملون
وأتصور أن الإصلاح الجبائي يجب أن يستند على ثلاث دعامات، حيث تتجه الدعامة الأولى، نحو جباية تشجع الاستثمار المنتج الذي يخلق الشغل الدائم، فعندما تتحدث عن المنتجات، فأنت تقصد التنافسية والإنتاجية، ما يدفعك إلى دمج الرأسمال اللامادي، لا يجب تشجيع قطاعات معينة، بل المصانع التي تخلق فرص عمل دائمة، بما يساعدها على التوسع أكثر واستفادة أنشطة أخرى منها في إطار المناولة مثلا، ناهيك عن الحركية التي ستخلق على مستوى البنوك والخدمات.
ما هي الضرائب التي يجب مراجعتها من أجل تحقيق هدف تشجيع الاستثمار المنتج الذي يخلق الشغل؟
هذا يحيلنا على الدعامة الثانية، حيث يجب تحقيق حياد الضريبة على القيمة المضافة، التي يؤديها المستهلك. عندما تشتري منتجا معفى من الضريبة على القيمة المضافة، وعندما تبيعه تطبق تلك الضريبة، لا تستطيع استرجاعها، ما يعطل اشتغال هذا النظام، فنحن نوجد هنا في ظل المصدم Butoir، يجب تفادي الحالات التي لا يستطيع فيها الفاعل الاقتصادي استرجاع الضريبة على القيمة المضافة، هذا ما يبرر تكريس مبدأ حياد تلك الضريبة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، هناك معدلات مختلفة للضريبة على القيمة المضافة، غير أنه عندما تشتري بـ7 في المائة وتطبق 20 في المائة عند البيع، لا تستطيع استرجاع الضريبة، فتصبح متحملا لها. وعندما تطالب باسترجاع الضريبة على القيمة المضافة لا يردون لك. فالدولة كانت متأخرة في أداء 30 مليار درهم برسم الضريبة على القيمة المضافة.
اقرأ أيضا:
محمد برادة: نحن نقول في المغرب "الأجنبي أولا".. لقد فقدنا الحس الوطني (2/1)
ماذا عن الضريبة على الشركات والضريبة على الدخل؟
نحن نوجد بإزاء أشخاص يفون بما في ذمتهم، وأشخاص لا يقومون بذلك او لا يقومون به كفاقة. فـ60 في المائة من الضريبة على الدخل تأتي الحجز عند المنبع من أجور الأجراء والموظفين، والباقي يهم المهن الحرة؛ أي الأطباء والمحامون والمصحات الخاصة، ففي المهن الحرة هناك من يؤدي ضريبة أقل من أولئك الذين يعملون. هناك عدم أنصاف على هذا المستوى.
عندما تؤدي الضريبة، فأنت تكرس نفسك كمواطن مغربي
وعندما ننتظر إلى الضريبة على الشركات، نجد أن 0,8 في المائة من الشركات، تؤدي 80 في المائة من عائداتها،؛ هذا يعني أن عددا كبيرا من الشركات تعلن عن خسارات ومع ذلك تستمر في الحياة، ما يؤشر على أن جزءا من تلك الشركات لا يصرح بكلية رقم معاملاته وهذا يغذي الغش الجبائي، وفي بعض الأحيان، الاقتصاد غير المهيكل.
كيف يمكن محاربة الغش الجبائي؟
هناك استراتيجية كاملة من أجل محاربة الغش الجبائي. وهذا يمر عبر توسيع الوعاء الجبائي من أجل خفض معدلات الضريبة. فعندما ترفع المعدلات تقلص الوعاء الجبائي، وعندما تخفض المعدلات وتوسع الوعاء، يؤدي الناس الضريبة. هذه السياسة التي نريد اتباعها.
كيف تتصورون الفوارق الاجتماعية عبر الجباية؟
في القطاع غير المهيكل، الناس يشترون من السوق السوداء، والمال الذي يحصلونه يصرفونه في السوق السوداء، هذا هو النظام الذي يتبعونه في أداء أجور العاملين لديهم. والمشكل أن هؤلاء العمال لا يصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فـ50 في المائة من الساكنة المغربية محرومة من التغطية الصحية والتقاعد، وهذا يؤجج الفوارق. نحن نريد إصلاحا جبائيا يفضي إلى توسيع الوعاء الجبائي، ويساعد على التصريح بالعاملين حتى يستفيدوا من التغطية الصحية والتقاعد. نحن نربط الجبائة بالسياسة الاجتماعية.
نحن نريد إصلاحا جبائيا يفضي إلى توسيع الوعاء الجبائي
في غالب الأحيان، تسن قوانين نظرية، وعندما نريد تطبقها لا ننجح. فعندما نريد أن نتخذ تدبيرا جبائيا، يجب أن ننظر في ما إذا كان يحترم المبادىء التي أشرت إليها آنفا، خاصة في يتصل بتشجيع الاستثمار الذي يخلق الشغل وتوسيع الوعاء. في نفس الوقت، يفترض أن ننظر في مدى قابلية للتطبيق، فنحن عندما نريد تطبيق تدبير، نكتشف بأن القانون كتب بطريقة سيئة أو ينطوي على شططا ما، وبالتالي يتعذر تفعيله. يجب النظر في مدى قابلية القوانين للتطبيق في سياقها. نحن في الحاجة للتفكير في نصوص بسيطة تسهل قراءتها من قبل الناس. فعدد الرسوم المحلية مثلا كبيرا، حيث تصل إلى 27 رسما، وهي متضاربة في بعض الأحيان، ما يعني أنه يجب اختزالها في رسمين أو ثلاثة رسوم. هذا يعني أن مجهودا يجب أن يبذل في مجال تبسيط القوانين.
ماذا عن الإدارة الجباية؟
هناك ملزمون يقولون إنهم لا يتخوفون من الضريبة، بل من الإدارة الجبائية.
لكن الإدارة الجبائية لا تتوفر على ما يكفي من الموارد البشرية من أجل أنسنة عملها؟
الناس يخافون من مفتش الضريبة كما يخافون من الشرطي. والحال أن المفتش يمثل الدولة، ويجب أن يحترم الملزم بالضريبة. وقبل أن يأتي إليه، يفترض أن يشرح ويفسر. وهذا يمر مثلا عبر وضع دليل للملزم، الذي يوضح جميع المراحل التي يفترض اتباعها من أجل تبسيط العملية. أنا أدعو إلى تدريس التربية المدنية على الضريبة في المدارس. هذا يجب أن يبدأ في سن السادسة أو السابعة. عندما تؤدي الضريبة، فأنت تكرس نفسك كمواطن مغربي، يساهم في المجهود الجبائي للدولة، وهذا أحد أبعاد المواطنة.
عندما يرى الناس وضعية مستشفياتنا العمومية، فإنهم يتساءلون حول الجدوى من أداء الضريبة
يجب أن يفهم الناس ما الذي تفعله الدولة بالضريبة التي يؤدونها. ويجب على الدولة، من جهة، أخرى أن تعطي المثال عبر عقلنة إنفاقها. فنحن نؤدي الضريبة من أجل توفير الخدمات وتحقيق الأمن والدفاع عن البلد وتوفير المدارس والصحة، غير أنه عندما تنظر إلى وضعية التعليم العمومي تجد أن وضعه يدفع الأسر إلى توجيه أبنائها إلى المدارس الخاصة، وعندما يرى الناس وضعية مستشفياتنا العمومية، فإنهم يتساءلون حول الجدوى من أداء الضريبة.
كيف سيتجلى هذا على مستوى الإدارة الجبائية؟
أنا أريد إدارة جبائية ذات بعد إنساني. نحن في نظام يقوم على التصريح، والرقمنة تتيح اليوم التعرف على حقيقة تصريحات الناس عن بعد، كما يمكن أن تساعد على مدى التطابق بين تصريحات المستوردين لدى الجمارك والتصريحات بأرقام معاملاتهم لدى الإدارة الجبائية. يجب أن نحد من الاستيراد غير المعقلن والتهريب الذي يؤشر على ضعف المواطنة، بسبب الأضرار التي يلحقها بالاقتصاد الوطني. هذا كله يجب أن ينظر إليه في إطار مقاربة شاملة، حيث الجباية ليست سوى أداة، من بين أدوات أخرى، حيث يفترض إصلاح الإدارة واللجوء إلى تبسيط أكثر وجذب الاستثمارات وتحسين الحكامة المحلية والمركزية.
ألا تتخوفون من مقاومة الإصلاح بالنظر لوضعيات الريع الراسخة ووزن جماعات الضغط؟
هناك عنصران يجب الأخذ بهما على هذا المستوى، يجب، أولا، التوفر على رؤية شاملة، والسعي، ثانيا، لإنجاز إصلاحات في جميع المجالات. يجب أن يكون هناك نوع من التناغم بين جميع السياسات. وهذا يفترض التدرج، أنا لست رجل ثورة، بل رجل تطور. نحن نتوفر على جزء من الساكنة غير متعلمة، يجب معالجة مشكلة التربية، لن تستطيع إنجاح أي إصلاح دون التصدي لهذا الأمر.
ألن يؤثر حياد الضريبة على القيمة المضافة والتوجه نحو تقليص معدلاتها على القدرة الشرائية للأسر المغربية؟
يجب أن يطبق على السلع الغذائية الأساسية معدل ضريبة يحافظ على القدرة الشرائية للأسر، غير أنه خارج ذلك، أنا أتصور أن المهم، ليس دعم القدرة الشرائية، بل توفير فرص العمل، التي تتيح مداخيل، تخول الاستهلاك. يجب أن نركز على توفير فرص العمل والحماية الاجتماعي، التي تتيح التغطية الصحية والتقاعد. يجب أن نفكر في الفرد عندما يصل إلى سن التقاعد.
يجب أن يطبق على السلع الغذائية الأساسية معدل ضريبة يحافظ على القدرة الشرائية للأسر
كان الحسن الثاني يقول إننا لا نريد أن تكون لنا دور للعجزة، لأننا نتوفر على التضامن، غير أن اليوم الأمور تغيرت، فالأشخاص الذي وصلوا إلى سن التقاعد دون أن يتوفروا على معاش، يجب أن تتكفل بهم الدولة. وهذا الأمر يجب التفكير فيه، منذ اليوم، حيث يفترض بحث فكرة خلق نوع من الصندوق الاجتماعي، الذي يمكن أن يضخ فيه جزء من الضريبة على الشركات والضريبة على الدخل والضريبة على القيمة المضافة، كي يجري تقليص الفوارق الاجتماعية على هذا المستوى.
ماذا عن الطبقة المتوسطة التي تعاني كثيرا في الأعوام الأخيرة؟
يجب إعادة النظر في شرائح الدخول، يمكن رفع الشريحة المعفاة التي تحدد اليوم في 30 ألف درهم، ورفع الشرائح العليا كي يؤدي أصحابها مكان الآخرين. هذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا وسعنا قاعدة الملزمين، لأن هناك العديدين الذين لا يؤدون. كل هذا لا يمكن أن يحدث دفعة واحدة. نحن حددنا الخطوط العريضة، بما في ذلك الحكامة. أنا أقول إن الضريبة وحدها لا يمكنها حل مشاكل المغرب، يجب أن نتوفر على رؤية شاملة، تتناول إصلاح الإدارة والحكامة والجدية والتربية، التي ندمج فيها احترام القوانين، ففي السويد يصل معدل التضريب إلى 50 و60 في المائة، والجميع مرتاح لذلك، لأنك ترى وزيرا يتنقل على متن دراجة.
يجب أن نتوفر على رؤية شاملة، تتناول إصلاح الإدارة والحكامة والجدية والتربية
يجب عقلنة النفقة العمومية، كي يرى الناس أن الجميع من نفس المستوى. نفس الأمر يسري على الإعفاءات، وقد طالبت بإعادة النظر في كل سياسة الإعفاءات، التي يفترض أن تقتصر فقط على الاستثمارات المنتجة التي تخلق فرص العمل كما قلت في السابق. نحن أخرجنا مذكرة تأطيرية من أجل إثارة النقاش ونحن محتاجون للأفكار المختلفة من جميع الفاعلين، فنحن لسنا في حاجة للفكر الوحيد، فالاختلاف هو الذين سيساعدنا على التوصل إلى تصور حول ما يجب أن يكون عليه النظام الجماعي المغربي.
نحن في حاجة لنظام ضريبي يساهم في خلق الشغل ودعم القدرة الشرائية ومحاربة الفوارق الاجتماعية.