بعد أن كان يتهمون بكونهم "آلات للصراخ" فقط ومصدر للشغب، أصبح أفراد "الإلتراس" اليوم يثيرون الإعجاب بفضل أناشيدهم المطلبية في المدرجات. لقد أصبحوا صوت المعاناة الاجتماعية والسياسية.
في 23 شتنبر الماضي، كان الرجاء البيضاوي يستقبل "كارا برازفيل" الكونغولي برسم مباراة إياب ربع نهاية كأس الكاف. في الدقيقة 37 كان الفريق الأخضر متقدما بواحد لصفر، ما يعني أن التأهل كان شبه مضمون بما أن رفاق عبد الإله الحافظي كانوا قد فازوا في مباراة الذهاب بالكونغو بهدفين لهدف واحد. في هذه اللحظة انطلق من "الفراج الجنوبي" (الماكانا) نشيد حزين ردده فورا الـ40 ألف متفرج الحاضرين ذلك المساء بمركب محمد الخامس. هكذا ولد "في بلادي ظلموني"، نشيد 2018 عند أنصار النسور الخضر.
" نشيد 'في بلادي ظلموني' تم إعداده في مارس 2017 من طرف الـ'Gruppo Aquile'، جناحنا الموسيقي. ولكن في تلك الفترة كانت المواجهات بين عناصر الإلتراس وقوات الأمن متكررة (بعد اعتماد معايير جديدة منها الإكثار من التفتيش عند المداخل). كان أفراد الإلتراس في محنة كل أسبوع، فقد كانوا مضطهدين من طرف الشرطة والمكلفين بالحراسة فقط لأنهم يريدون نشر باشاتهم أو التلويح بأعلامهم، ومتابعة المباريات لتشجيع فرقهم. إنهم يحرموننا من متنفسنا الوحيد.. ويفرضون الرقابة على شغف الشباب الذين يضحون بكل ما يملكون من أجل ألوان فرقهم" يقول أعضاء من إلترا "غرين إيغلز".
لكن هذا النشيد، الذي يحكي الهموم اليومية للمشجعين، تجاوز اليوم هذا الإطار ليصبح ذا بعد سياسي. فتحت الأدخنة الخضراء والبيضاء كان المشجعون ينددون بـ"الظلم" و"تبذير خيرات البلاد"، و"تهميش الشباب" و"قمع جيل بكامله". ثلاثة دقائق شكل فيها الشباب وغير الشباب، النساء والرجال، صوتا واحدا.. صوت "شعب مقموع في بلاده"(...)
كسبت "في بلادي ظلموني" مزيدا من الشعبية مع توالي أيام صيف 2018. في كل مباراة جديدة للرجاء بالبيضاء، زاد أفراد الإلترا من جودة أدائها وقوتها. وجاءت مواجهة فريق "كار برازفيل" في فترة احتد فيها القلق الاجتماعي، الذي غدته مقاطعة مسيسة لعدد من المنتوجات، والأحكام الصادرة في حق قادة حراك الريف، والإعلان عن عودة التجنيد الإجباري. وجاءت وفاة حياة بلقاس، هذه التطونية البالغة من العمر 19 عاما التي هلكت بالرصاص وهي تحاول عبور مضيق جبل طارق سرا، لتؤجج نيران الغضب.
غداة هذه المأساة، اجتاحت فيديوهات مشجعي الرجاء وهم يؤدون "في بلادي ظلموني" الشبكات الاجتماعية. وأثار النشيد اهتمام الرأي العام، بل وأبدت شخصيات عمومية إعجابها به، هي التي لا تهتم عادة بالشأن الكروي. وسيكتب الروائي عبد الله الطايع على صفحته بالفيسبوك أن بدنه اقشعر لما سمع النشيد:"يجب أن أعترف بانني، مهما كتبت، لن أبلغ قوة هذه الأغنية، نَفَس هذه الأغنية.(...) كلمات من الواقع القاسي، كلمات ثورية، كلمات بلا أمل".
بعد هذا الصدى، تمت ترجمة كلمات "في بلادي ظلموني" إلى الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية. وحقق الكليب الرسمي لهذا النشيد 5 ملايين مشاهدة، وتحبل التعاليق بالمديح لعمق معنى الكلمات. وتماهى الناس مع النص، مع الآلام التي وصفها مؤلف أو مؤلفوه(...)
لقد أماط نشيد "بلادي ظلموني" اللثام عن وجه آخر من وجوه الإلتراس، التي غالبا من توجه لها أصابع الاتهام – ظلما- بخصوص الأحداث التي تكون الملاعب مسرحا لها قبل وخلال المبارايات وحتى بعدها. ويقول عبد الرحيم بورقية، السوسيولوجي صاحب كتاب "إلتراس في المدينة" (2018): "أظن أن تصور الناس تغير، وأولئك الذين كان يصمون المشجعين والإلتراس، ولا يرون فيهم سوى 'آلات للصراخ' ومثيرين للشغب، بدأوا يهتمون بالوجه الآخر للتشجيع، أي أنه وسيلة للتعبير لدى الشباب المغاربة الذين لا يثقون في الأحزاب السياسية وفي الفاعلين الجمعويين، ويحسون بالانتماء أكثر إلى جماعات 'الإلتراس' حيث يمكن لأي كان أن يصبح ذا شأن دون أن يسأل أحد عن أصوله ولا عن مستواه الاجتماعي أو الثقافي".
المدرجات.. فضاء للاحتجاج
(...)"كل الأناشيد تثير المشاكل الاجتماعية، فهي جزء من الروتين اليومي للشباب المغاربة" يقول أيوب، العضو في إلترا "غرين إيغلز" الذي يضيف "خذ مثلا عضوا في 'إلترا' ما أو مشجع مستقل يرغب في مصاحبة فريقه، فهو يواجه متاعب مالية بسبب البطالة، الفقر، أو الأجر الزهيد الذي يحصل عليه في نهاية كل شهر، كما يعاني من ضغوط محيطه.. إلخ". ثم يواصل بالقول إن "المشاكل الاجتماعية تعيق شغف الشباب، تمنعهم من الفضاء الوحيد حيث يحسون بحرية لإخراج ما في عمق أرواحهم".
لكن محدثنا ينفي أن تكون لمجموعته أي انتماء سياسي، رغم الحمولات الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن يحملها خطابها. "المجموعة ليس لها انتماء سياسي، وهي ترفض حشرها في خانة معينة، ولكن هناك أفراد في كل الإلتراس بالمغرب لهم توجه سياسي. والأعضاء هنا من أجل الكرة وليس للحديث عن السياسة أو المشاكل الاجتماعية" يوضح أيوب (...)
بيد ان عبد الرحيم لا يتفق تمام الاتفاق مع هذا الكلام. "أفراد الإلتراس يقولون إنهم لا سياسيين، ولكنهم يدافعون عن نظرة معينة إلى المجتمع، وإلى الأوضاع السوسيو-اقتصادية. وإذا كانت صراخاتهم موجهة بالأساس إلى مسيري الفرق، ومسؤولي الجامعة، والمشرفين على الملاعب، فإن بعض الإلتراس يعبرون عن مطالب ذات طابع اجتماعي وسياسي حسب مستجدات الأحداث والسياق السوسيو اقتصادي والسياسي للبلاد"، يقول عالم الاجتماع المغربي.
نضال هوياتي
بالنسبة إلى زميله، منصف اليازغي، صاحب كتابي "السياسات الرياضية بالمغرب 1912-2021" و"مخزنة الرياضة"، فإن هذه الظاهرة سبقت ميلاد الإلتراس. ويشير اليازغي هنا إلى حالة مشجعي حسنية أكادير في موسم 2001-2002، لما فاز فريقهم بالبطولة لأول مرة في تاريخه، متقدما على الوداد والرجاء، ويقول "كان النقاش حول مكانة اللغة الأمازيغية يشغل الساحة العمومية، وكان يدور حول الحرف الذي يجب اعتماده لكتابة الأمازيغية، اللاتيني، العربي أم تيفناغ. وكان المشجعون قد حسموا أمرهم ورفعوا لافتات مكتوبة بالتيفناغ. كما ان أناشيدهم، وهي بالأمازيغية كذلك، كانت تعبر عن حاجة إلى الاعتراف بهويتهم". فـ"مشجعو الحسنية كان يحسون بأنهم مقموعون في هويتهم، وفوز فريقهم بالبطولة كان مناسبة غير مسبوقة لتحرير كلامهم" يضيف اليازغي.
"حراك" الملاعب
نجد توظيف الملعب كوسيلة للتأكيد على الهوية كذلك في الريف. ويشكل كل من "ريف بويز" و"لوس رفينوس 2962" مجموعتي "الإلتراس" التي تساند شباب الريف الحسيمي في الحسيمة وخارجها، وقد كان أفرادهما ضمن ضحايا موجة الاعتقالات التي مست متظاهري حراك الريف. ويقول أحد مشجعي الفريق "يوجد ما بين 50 و60 من قادة الإلتراس وراء القضبان بكل 'عين عيشة' (تاونات)، وتوريرت، وفاس. كان كل منهم يجلب معه حشدا كبيرا من المشجعين إلى الملعب".
بينما كانت الحركة الاحتجاجية بالريف في أوجها، كان أفراد الإلتراس يصدحون مع المتظاهرين بالمدينة رافعين أصواتهم بالمطالب. وكانوا يرفعون في المدرجات صور الشخصيات الرمزية بالمنطقة: أمغار محند، (كما يسمون محمد بن عبد الكريم الخطابي)، محمد أمزيان، زعيم الثورة الأولى بالريف عام 1909، دون نسيان العلم الأحمر بالمعين الأبيض لـ"جمهورية الريف" الفانية.
وإسوة بحسنية أكادير وأطلس خنيفرة والاتحاد الزموري للخميسات، كان إلتراس الحسيمة يرفعون العلم الأمازيغي الثلاثي الألوان، والرموز الأخرى للهوية الأمازيغية (خريطة منطقة شمال إفريقيا الموحدة، لافتات بحرف تيفناغ، أناشيد منقوعة في اللهجات المحلية... إلخ).
بعد تلك السلسلة من الاعتقالات، أوقف افراد "الإلتراسين" نشاطهما: لا تيفوات ولا أعلام. ولكن المشجعين جعلوا يرددون ذلك الشعار الذي كان يرفعه السكان عند نهاية كل مظاهرة، "عاش الريف ولا عاش من خانو"، ثم يطالبون بإطلاق سراح القادة الكبار للحراك مثل ناصر الزفزافي، محمد جلول ونبيل احميجيق.
اليأس يؤدي إلى الراديكالية
إن هذا الانخراط الكثيف لأفراد إحدى "الإلتراس" في حركة احتجاجية اجتماعية يعتبر، في نظر عبد الرحيم بورقية، "سابقة" بالمغرب، مشيرا إلى أنه "لم يلاحظ انخراط رسمي لمجموعات الإلتراس خلال مظاهرات 20 فبراير". بل على العكس من ذلك، تمت الاستعانة بمشجعي الرجاء والوداد للإشادة بعهد الملك محمد السادس. فبينما كان الاحتجاجات الاجتماعية في أوجها، كانت مدرجات مركب محمد الخامس خلال الديربي، ومدرجات مراكش خلال استقبال المنتخب المغربي لنظيره الجزائري (يونيو 2011)، تتشح بتيفوات تمجد العاهل المغربي. ويضيف بورقية أن "جمهور الرجاء صدح بتعلقه بالملكية وبمحمد السادس، دون أن يغفل توجيه النقد إلى الحكومة والوزراء". والآن بعد مرور سبع سنوات على فورة 20 فبراير، لم تعد تُسمع شعارات ممجدة للملك ولكن الأناشيد مازالت توجه انتقادات حادة للمسؤولين(...)
بتصرف عن "تيل كيل"