يتمحور الجزء الثاني من حوار "تيلكيل عربي" مع السوسيولوجي نور الدين الزاهي، حول الاحتجاجات التي شهدتها منطقة الريف ورموزها التاريخية، وكذلك حول العنف في المجتمع المغربي.
تعيش منطقة الريف احتجاجات، نتج بعضها عن ظروف اقتصادية واجتماعية. لكن نلاحظ أيضا أن "الرموز" التاريخية لا تزال حاضرة في ذاكرة المنطقة، كعبد الكريم الخطابي وأمزيان وأوفقير والحسن الثاني.. بإزاء ثقافة المنطقة ولغتها. لماذا لا تزال تلك "الرمزية" والأحداث التاريخية، محركا احتجاجيا ؟
لقد تحدث الفيلسوف الألماني هيغل عن "مكر التاريخ"، وفي قراءات معاصرة لهاته الأطروحة، أصبح بعض المؤرخين يشغلون مقولة "انتقام التاريخ" في قراءة أحداث معاصرة، من مثل تدمير تنظيم القاعدة وبعده تنظيم داعش، للمأثورات التاريخية سواء في أفغانستان أو سوريا والعراق. التاريخ لا يتم إبعاده بمجرد الانتقال من مرحلة أو عصر إلى آخر.
إنه يعود وبقوة في لحظات أخرى. مبتغى هذا القول أن منطقة الريف التي أعادها الفعل الاحتجاجي العمومي الأخير إلى الواجهة، هي منطقة لها تاريخها المحلي الخاص في التاريخ المعاصر المغربي. أقول وأؤكد تاريخها المحلي الخاص، مثلها في ذلك مثل المنطقة الجنوبية، لكن الذي يسم تاريخيا منطقة الشمال المغربي تلك، إلى جانب مآثر الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي ورفاقه في المرحلة الاستعمارية، هو السخط الرمزي الذي لحق المنطقة وساكنتها طيلة عقود من القرن الماضي والذي بشكل أو آخر لحق تاريخها المحلي.
لذلك فالحركة الاحتجاجية بريف المغرب يتمفصل فيها التاريخي في صيغته الرمزية بالإجتماعي في صيغته الواقعية. هذا التمفصل يعيد إلى الواجهة التاريخ المحلي لكن في قوته الرمزية، وذلك داخل صراع اجتماعي يمس واقع العيش اليومي في المنطقة. وفي رأيي هذا التمفصل هو الذي جعل البعض يرمي بأبناء وشباب الريف، بكل توحش عنيف، خارج الإنتماء المغربي، من دون أن يدرك فعل الإنتقام الرمزي للتاريخ داخل أنماط العيش الحاضرة. وهو ما جعل أيضا من هذا الفعل الإحتجاجي مميزا داخل تاريخ فعل الإحتجاج بالمغرب، سواء من حيث وقعه على المجتمع والدولة، أو من حيث الحساسية الرمزية والوقع المشحون بالرهبة والترقب الذي أحدثه في شعور كل المغاربة.
في نظرك، من هو اليوم "الفلاح" الذي يدافع عن العرش؟
(يضحك) الفلاح الحالي الذي يدافع عن العرش، على الأقل في المجال الذي أنتمي إليه، هو هذا الذي يسمي نفسه بالخبير الإستراتيجي ومدير مراكز للدراسات، ومستشار القنوات التلفزية.. والذي تجده مع كل حدث اجتماعي أو سياسي يحلل للعموم ما تقوله الخطب الملكية والزيارات الملكية، من دون أن يمنح لنفسه ولو ساعة زمن يفكر فيها ما قصدته الخطبة الملكية، بكل منطوقاتها ومقاصدها..
نلاحظ في المغرب، أنه رغم الجهود المبذولة من طرف المؤسسات والفاعلين الدينيين، لا زلنا نشهد تطرفا دينيا يظهر هنا وهناك.. لماذا في رأيك؟
لقد دخل العالم قرنه 21 تحت ظل عنوان كبير، هو التطرف الديني العنيف. ومنذ بداية القرن إلى حدود الآن أصبح هذا النوع من العنف يغطي جغرافيات كبيرة و كثيرة. السؤال الكبير الذي يشغل علماء الاجتماع لم يعد ينصب عن لماذا هنالك متطرفون عنيفون، ومن ثم لم يعد ينصب على البحث عن العوامل الخارجية التي تفسرالظاهرة. على اعتبار أن البحث عن عوامل ومنابع التطرف الديني العنيف خارج الفاعلين المتطرفين، تتحكم فيه فكرة مفادها أن معرفة الأسباب والعلل يسهل و يؤدي إلى استئصال الظاهرة من جذورها. فكرة استئصال الظاهرة هته بناء على معرفة عللها الخارجية (انتماء ديني سلفي جهادي، فقر و تهميش، أمراض نفسية، سوابق في الجريمة ...) لم تنجح، مثلها في ذلك مثل المقاربة الأمنية والعسكرية، في استئصال الفعل الديني المتطرف.
فكرة استئصال الفعل الديني المتطرف بناء على معرفة عللها الخارجية (انتماء ديني سلفي جهادي ، فقر و تهميش ، أمراض نفسية ، سوابق في الجريمة ...) لم تنجح، مثلها في ذلك مثل المقاربة الأمنية والعسكرية.
لذلك لجأ علماء الاجتماع إلى التوجه نحو السؤال: كيف يتحول شباب عاديون إلى شباب متطرفين ومتشددين ؟ الأمر الذي يتطلب رصد التطرف الديني العنيف انطلاقا من رصد سيرورات فاعليه التي جعلتهم ينزلقون تدريجيا من عيشهم العادي إلى التحول إلى فاعلي عنف متطرف. فهؤلاء ليسوا وحوشا وليسوا بمرضى ومجانين، بل أبناء بلدانهم. كما أن سياقات العيش داخل بلدانهم هي ما جعلهم يتدحرجون داخل مسارات وسيروات التطرف الديني العنيف.
إذن التطرف الديني العنيف ليس هو الحدث فقط، بل هو سيرورات سابقة على الحدث، وضبط تلك السيرورات والمسارات، كما عاشها فاعلو العنف المتطرف، هو المدخل لفهم لماذا يحدث الفعل الديني المتطرف هنا أو هناك.
اشتغلت في كتابك المتميز "المقدس الاسلامي" عن الطقوسية في الممارسات الشعائرية. كيف تؤثر ثنائية "المقدس والمدنس" في تدين المغاربة، وعلى ما نسميه الاحتكام إلى النص الديني ؟
حياة التدين في المجتمع لا تتحكم فيها الديانة ونصوصها المرجعية، بل تحولات المجتمع وحركته. هاته التحولات والحركة هي التي تهيكل أنماط الاعتقاد عموما والاعتقاد الديني خصوصا. سواء في النصوص المرجعية المقدسة أو في ما يشكل أساسها الاجتماعي من حلال وحرام ومباح و محظور.
الآن تضيق مساحة المقدس في صيغته التقليدية لدى عموم الناس، وتتسع صيغته الجديدة التي أصبحت فيها الوسائل أهم وأكثر من المراجع الأصلية. لم تعد مرجعية الفقيه والشواف والشوافة والحروزة والعشاب والذبيحة والهدية، تشغل وضعها المركزي في صلات المقدس بالمجتمع، بل شبكات التواصل الاجتماعي وفيديوهات اليوتوب والفضائيات المتخصصة في هذا المجال، و"صيدليات الرقية الشرعية" أصبحت هي الوسائط والمراجع وكيفيات عيش المقدس في المجتمع.
لم تعد مرجعية الفقيه والشواف والشوافة تشغل وضعها المركزي في صلات المقدس بالمجتمع، بل شبكات التواصل الاجتماعي وفيديوهات اليوتوب والفضائيات. وأصبحت "صيدليات الرقية الشرعية" هي الوسائط والمراجع وكيفية عيش المقدس في المجتمع.
لقد أصبح المقدس افتراضيا أكثر فأكثر وهو ما يطرح السؤال عن تحولات المقدس في صلاته بالتقنية، وأيضا عن صلاته بالدنيوي. وكذا عن تحولات المعتقدات الدينية الشعبية، حتى لا نظل نكرر ونجتر كباحثين حديثنا عن هاته الموضوعات وكأن المجتمع المغربي لا زال في زمن القرن 19، أو وكأن الاعتقاد الديني بجميع أشكاله يظل في منأى عن تغيرات المجتمعات وسياقاتها المحيطة.
إيريك فروم في كتابه "تشريح التدميرية البشرية" تحدث عن العنف الكامن في كل إنسان. في رأيك من يغذي العنف في المجتمع المغربي، الديني أو الاجتماعيأو النفسي.. أو السياسي ؟
معذرة لإريك فروم وسيغموند فرويد، العنف لا يسكن الناس وليس غريزة أصلية وليس جوهرا للكائن البشري. في هاته النقطة أنا أميل إلى "حنة أرنت" التي لا تتفق هي الأخرى مع أطروحات فروم و فرويد. العنف لا يسكن بل يتشكل، ولا يكمن بل يتولد. إنه في حاجة إلى سياق صغير أو كبير، وهو قرار يتخده الفرد أو الجماعة. وفي الأخير هو أيضا تبرير يبحث عنه فاعل العنف، لكن ميزة التبرير هو أنه يتم استقاؤه من خارج مجال العنف (دين، هشاشة، تفكك أسري، فقر، غياب الظروف الايجابية.. وقس على ذلك).
العنف لا يسكن بل يتشكل، ولا يكمن بل يتولد.. وتنقصنا الدراسات والأبحاث الميدانية كي نفهم ما يحصل من عنف، عوض الاكتفاء باستهلاك بلاغة سوسيولوجيا الخشب.
العنف الذي أصبح يملأ المجالات الخاصة والعمومية في المجتمع المغربي (أسرة، مدرسة، الشارع العام)، ويخترق بشكل غير مسبوق كل أنماط التواصل الاجتماعي، ليس عنفا أصليا واحدا يقتسمه فاعلوه بكل عدل. بل هو عنف متعدد (عنف بالجمع وليس بالمفرد). وإذا ما كان كذلك فيجب رصد سيرورات تشكله داخل المسارات الحياتية الشخصية والاجتماعية للحالات الفردية. حينها سنجد أن كل حالة أو بعض الحالات كانت محفزات ولوجها عالم الفعل العنيف تجاه الغير، مغايرة لحالات أخرى، على الرغم أنها تعيش نفس المشترك في متغيرات الجنس والسن والحالة الاجتماعية والعائلية.
إنها الدراسات والأبحاث الميدانية التي تنقصنا كي نفهم ما يحصل من عنف، عوض الاكتفاء باستهلاك بلاغة سوسيولوجيا الخشب، التي تمتلك نفس الوصفة التفسيرية لكل حالات العنف الحاصلة في الفضاءات الاجتماعية.
اقرأ الجزء (1): نور الدين الزاهي: الملك أكثر شعبية لأن القيادات الحزبية اختارت وضعية التابع والمريد