خص حسن أوريد مجلة "تيل كيل" بحوار مطول تناول فيه العديد من القضايا الراهنة بالمغرب: التغيير، الديمقراطية، الإسلاميون، الحسن الثاني، محمد السادس، فشل النموذج الاقتصادي، مفارقات الإسلام الرسمي... "تيل كيل عربي" تنقل هنا أهم ما جاء في هذا اللقاء الجديد للمتحدث الأسبق باسم القصر الملكي.
(...) في 2011، تمخضت الحركة الاحتجاجية التي اجتاحت المغرب عن بعض المشاريع الإصلاحية الواعدة. هناك من يعتقد أن ذلك كان مجرد قوس قد تم إغلاقه الآن. ما رأيك؟
في السياسة لا يعتد كثيرا بالانطباعات. بلا شك كانت هناك آمال عريضة، وأعتقد أن الغلبة كانت للهاجس الأمني في نهاية المطاف. حين نعكف على التحليل يجب أن نميز بين الأسباب والأعراض. وأختلف مع عدد من أصحاب القرار في كونهم يتعاملون مع الأعراض على أنها أسباب المشكل، وبالتالي يتم مثلا مواجهة المحتجين دون تجشم عناء الانكباب على الأسباب التي دفعتهم إلى الاحتجاج. قطعا، تم القيام بعدد من الأمور، والذين لا يتحركون هم وحدهم الذين لا يخطئون. وأرى أنه لا ضير إن تمت إعادة النظر في بعض القضايا.
هناك مسألة أخرى: صحيح أن السياسة قضية مصالح وأفكار، ولكنها كذلك قضية أشخاص ونخب... الناس في حاجة إلى التماهي مع نخبة معينة حتى يتطلعون إلى بلوغ مُثُلهم. وإن ظهرت خيبة الأمل، فهذا يعني أن النخبة القائمة لا تستجيب لانتظارات الناس.. لا تجسد مُثُلهم.
نحن بلد شاب يحتاج إلى قادة لهم القدرة على إقناع مختلف الشرائح الاجتماعية، وبالخصوص الشباب. والحق أن التطلع إلى الجلوس على مقعد ليس بشيء في السياسة، بل هو مجرد حركية اجتماعية في أفضل الحالات، هذا إن لم يكن وصولية محضة.
هل يمكن لهذه النخبة التصرف والتعبير بكل حرية؟ ألا تخشى على مصالحها، بل وحتى على حريتها؟
ولكن، يجب أن يكون المرء حرا حتى ينتج الأفكار! بطبيعة الحال، يجب التحرك في إطار القانون. صحيح أن هناك قوانين غير مكتوبة يمكن أن تعيق وتحد من التفكير والعمل، ومن الحيوي العمل على تقليص مجال هذه القوانين، حتى نكون منسجمين مع روح الديمقراطية، وهو السيادة الشعبية.
طبعا، هذه الأمور لا تأتي من تلقاء نفسها، وفي العلوم السياسية، يضربون المثل ببريطانيا العظمى التي تطورت بقبولها للأفكار الجديدة والنخبة الجديدة دون إعادة النظر بشكل جذري في البناء برمته، على عكس فرنسا التي عاشت الثورة، وتم فيها محو كل شيء. في تقديري، يجب أن نهتدي بالنموذج البريطاني من خلال قبول الأفكار الجديدة والنخب الجديدة مع الحفاظ على البناء القائم.
لنعد الآن إلى الاضطرابات التي يشهدها العالم، لقد بلغ هذا الوضع درجة أخذ فيها البعض يسائل أحيانا النموذج الديمقراطي، وهو ما يدفع ببعض المجتمعات نحو اليمن المتطرف. بل إن القوى الكبرى، وهي الصين والولايات المتحدة وروسيا، لا يحكمها ديمقراطيون. أليس هذا مثيرا للقلق؟
صدر في الولايات المتحدة قبل بضعة أشهر كتاب حول الانزلاق نحو الفاشية في العالم لـ"مادلين أولبرايت" (كاتبة الدولة الأمريكية السابقة)، وهناك بالموازاة توجه بأمريكا يقول إن الديمقراطية لم تعد أولوية، ويفضل النموذج السلطوي. بلا شك هناك اليوم موضة ذبلت فيها وردة الديمقراطية، إن جاز لي التعبير هكذا. ولكن الديمقراطية تظل، على حد تعبير تشرشيل، النظام السياسي الأقل سوء لتدبير الاختلافات داخل المجتمع، مادمنا لم نجد بديلا له رغم كل نواقصه.
لا جدال أننا نعيش اليوم انحرافا، ولكن، في تقديري، لا شيء يمكنه تعويض الديمقراطية.
في نظر بعض المفكرين الديمقراطية "تنافس سلمي من أجل ممارسة السلطة"، وبالنسبة إلى آخرين، هي أولا وقبل أي شيء مجموعة من القيم. ما تعريفك للديمقراطية؟
الديمقراطية أولا وقبل كل شيء فلسفة قائمة على مجموعة من القيم. أما الباقي فهدفه بسط هذه القيم التي يجب أن تنبني على السيادة الشعبية، منشأ هذه الديمقراطية.
على بعد عامين من الانتخابات التشريعية، يجري السؤال على كل الألسن: وماذا لو بقي الإسلاميون في السلطة؟ هل يمتلك حزب العدالة والتنمية ما يكفي من القوة للظفر بتشريعيات 2021؟
دعني هنا أوضح، وإن لم أكن مفوضا لهذا الغرض، أن حزب العدالة والتنمية يمتنع عن تقديم نفسه بكونه "حزبا إسلاميا"، بل هو يقدم نفسه كحزب ذي مرجعية إسلامية. شخصيا لم أتبين الفرق.
على كل حال، إذا نظرنا إلى الجانب التنظيمي، يظل الحزب الأقوى لأنه يتوفر على هياكل. فيما يخص المشروع المجتمعي، لا يقترح شيئا ذا بال، ويكتفي بتوظيف الأفكار التي ينتجها التكنوقراط.
البيجيدي انصهر بشكل جيد في المشهد ولم يعد يسائل توجهات الدولة ولا خياراتها الثقافية والاجتماعية.
بعض علماء السياسة يؤكدون أن النظام "لا يحب" الإسلاميين. ما هو سبب هذا النفور؟
إنك تأتي بحكم لا يمكنني اعتماده ولا نفيه. لا ريب، كانت هناك مرحلة – قبل حركة 20 فبراير- لم يكن ينظر فيها بعين الرضا إلى العدالة والتنمية، ولكنه بعد ذلك اندمج بشكل جيد في القالب. ومع ذلك من الصواب القول إنه يتوفر على مرجعية لا تنسجم مع مرجعية الدولة. وبإبرازه للشرعية الدينية، فإنه يصطدم مع شرعية النظام التي لها أسس دينية كذلك.
كما أن التصور الإسلامي في عمومه، وتصور العدالة والتنمية بالخصوص، لم يكن يتناغم مع البنية التكنوقراطية، ولكن الوضع تغير، فالبيجيدي انصهر بشكل جيد في المشهد ولم يعد يسائل توجهات الدولة ولا خياراتها الثقافية والاجتماعية.
في الاتجاه ذاته، ألا تلمس تناقضا بين الإسلام المعتدل الذي ينادي به القصر (أداء الأذان أمام البابا، بعض الخطب الجريئة لمحمد السادس حول تفسير الإسلام...)، وبين الإسلام الأكثر تشددا الذي نجده في المواعظ الدينية، والمقررات المدرسية وبعض وسائل الإعلام؟
لدينا اليوم ورش كبير، وأناس يتحلون بالجدية، داخل "الرابطة المحمدية للعلماء" وغيرها، يعكفون على هذه القضية. وصدرت توجيهات للتفكير في المناهج المدرسية. هذا يبرهن أن هناك وعي بهذا التباين، ولكن كل هذا لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها.
إننا أمام مدرستين: الدولة تسعى إلى تحديث الإسلام، ومدرسة الإسلاميين الذين يريدون أسلمة الحداثة. أنا مع تحديث المسلمين.
إلا أن ما يهمني كمثقف هو "تحديث" المغاربة حتى يكون بمقدورهم العيش في انسجام مع زمنهم، بإسلام لا يقصي الآخر، ولا يمكنهم الاندماج في عصرهم سوى عبر الورش الهائل للتعليم. وأقول في كتابي "الإسلامي السياسي في الميزان" إننا أمام مدرستين: الدولة تسعى إلى تحديث الإسلام، ومدرسة الإسلاميين الذين يريدون أسلمة الحداثة. أنا مع تحديث المسلمين، وبالتالي، المغاربة.
صرحت مؤخرا بأن المخزن ليس دولة، بمعنى؟
إن الدولة نتاج مسار رأى النور في الغرب. فيما يخص المغرب، استعرت الصورة التي وظفها بوحمارة الذي كان يقول إن المخزن خيمة ساريتها هي السلطان وأوتادها هم القياد (أو الخدام). فالمخزن ليس هو السلطان وحده، بل هو العنصر الأساسي في بنائه.
وهنا أقول بكل بساطة يجب الانتقال من الخيمة إلى البناء الصلب، إلى المؤسسات، إلى إرساء التوافق بين الوظائف والأجهزة.
لم يكن هذا التوافق يتحقق عندما دائما. فالدولة تقوم على مبدأ أساسي: دولة القانون، أي ما يسميه البريطانيون "the rule of law" (القاعدة القانونية) في مواجهة سلطة الأمير. فهذا ما يقيم الدولة، وآمل أن يتطور المخزن إلى مرتبة الدولة.
استعرت الصورة التي وظفها بوحمارة لتوضح أن السلطان ليس سوى قطعة من القطع التي تشكل المخزن. وفي كتابه "المغرب والحسن الثاني" تساءل عبد الله العروي إن كان المغرب هو الذي صنع الحسن الثاني أم العكس. بم يوحي لك هذا التساؤل؟
في هذه الحالة صنع كل منهما الآخر. فقد كان الحسن الثاني متشبعا بالإرث التاريخي للمغرب، مسكونا بالذاكرة الجماعية، ولكنه كذلك شكل المغرب: إلى جانب تشبعه بالتقاليد، تلقى الرجل تربية حديثة. وفي تقديري، أَحْسَنَ توظيف الإرث الاستعماري، وأعتقد أن حظ المغرب يكمن في: ليوطي، الذي لم يقطع مع تقاليد المخزن، والحسن الثاني وكل أعضاء فريقه الذين لم يقطعوا مع الإرث الاستعماري. مع ليوطي حافظنا على مرجعيات، ومع الحسن حصلنا على أدوات قوية(...).
أعتقد أن حظ المغرب يكمن في: ليوطي، الذي لم يقطع مع تقاليد المخزن، والحسن الثاني وكل أعضاء فريقه الذين لم يقطعوا مع الإرث الاستعماري
وماذا عن محمد السادس؟ هل يمكن القول إن لديه نموذجا خاصا أو فلسفة يهتدي بها في تصوره للسياسة؟
أخشى ألا تكون لدي المسافة الضرورية للخوض في الموضوع. فقد كنت داخل الجهاز لفترة من حياتي، وأخشى ألا تتحلى نظرتي بالموضوعية اللازمة. ولكن، لا يمكن إنكار أنه على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، هناك وعي بمحدودية النموذج الذي كان يروج له التكنوقراط.
في ديوانك "ما يقوله القصب"، تركز، وهذا أمر نادر، على جراحك.. على قصص حبك، على ماضيك... هل تساورك بعض خيبات الأمل؟
في الحياة الخيبة ليس أمرا سيئا. ما يمكن أن يأسف عليه المرء هو الندم، إن جاز لي التعبير. الخيبة تشحذ المرء بينما الندم يمحقه. وعلى كل حال، كان هناك مسار، وهل هناك مسار بدون فترات صعود وهبوط؟
لما كتبت هذا الديوان، تركت لمشاعري الحبل على الغارب، سواء على المستوى المهني أو العاطفي. وفعلت ذلك بلغتي، الأمازيغية. كان بمثابة "التطهير" (catharsis) بالنسبة إلي.
على أي، الخيبات أمر طبيعي في حياة الإنسان. والأهم هو مواصلة السير قدما. في لحظة ما نحس أننا في أمس الحاجة إلى أن "نشدو الأرض" كما نقول في الدارجة والأمازيغية، حتى نعرف أين نحن ونضمد جراحنا، ولكن طبعا دون أن نصير سجناء لها.
ليس لدينا الكثير من رجالات الدولة المثقفين. هل وظيفة رجل الدولة تسجن الأفكار؟
أنت تعرف تلك العبارة الشهيرة: "الوزير يستقيل أو يغلق فمه". لما تكون داخل الجهاز يتعين عليك احترام قواعد اللعبة. والكتابة فعل تحرري أولا وقبل أي شيء.. الكتابة أفكار لا يمكن التعبير عنها إن لم نكن أحرارا.
طبعا، لا وجود لحرية مطلقة، فقط نتفاوض، نقضم من هنا وهناك، نفحص المشهد... ثم هناك التكتيك.. الاستراتيجية.. الانسحاب.. كل هذا حسب اللحظة والسياق.
هل تحس بأنك أكثر حرية اليوم؟
لا أشكو من الإكراهات الإدارية، ولم أطلب من أي أحد الإذن للقائك، ولا ما يجب علي قوله. فلا قيمة للحرية أن لم تكن في خدمة المُثُل(...).
حاوره بلال مسجد
ترجمة من "تيل كيل" (مقاطع)