بيان من أجل الأساتذة

تيل كيل عربي

ـ هادي معزوز ـ

استمعوا لهذا القول الذي ينشر الغسيل بكل شفافية، وناكر منكم من يقول غيره أو عكسه.

سأبدأ من عبارة أدلى بها الناطق الرسمي باسم الحكومة، خلال ندوة صحافية أعقبت مجلس الحكومة يوم الخميس الفائت، حيث قال بخصوص النظام الأساسي أن: "بعض الأساتذة هم الذين يعترضون عليه... وأنه حافظ على المكتسبات..." ثم سأنتهي بإحدى زلات وزير العدل الذي لا يخلط بين الحكومة والدولة ولا يعرف الفرق بينهما، مرورا عبر وزير التربية الوطنية حينما اعتبر ان تعويضات التصحيح بإمكانها تحسين دخل الأستاذ، ناهيك عن خرجة إعلامية غير محسوبة لأحد النقابيين، الذي قال أن الأستاذ وبفضل الدعم التي تقدمه الدولة، لن يتسنى له بعدئذ مساعدة أسرته...!

جوابا على بايتاس: أغلب المدارس يسجل بها المضربون نسبة %100 ولا داعي للحديث عن المسيرة الوطنية التي نظمت يوم الثلاثاء بالرباط، حيث أقفلت المدارس وملئت محطات القطارات والحافلات والطرق السيارة المؤدية للرباط، وهذه خير رسالة توجب على الوزارة أن تتلقفها، إذ لا يعقل أن الجميع مخطئ أمام صواب شخص واحد ومن يدورون في فلكه.

جوابا على بنموسى: إذا كنت تعتقد أن 180 درهم كافية لتحسين دخل الأستاذ، بفضل تعويضات تصحيح الامتحانات، فإنه قول كاف لأخذ صورة على كل شيء، صورة غير ناطقة لأن مزاجها وشكلها كاف للتعبير.

جوابا على زعيم إحدى المركزيات النقابية: اعلم أولا أن التنسيقيات تملصت تماما من كل النقابات، ولو وجدت فيكم المدافع الشرس عن حقوقها لما تأسست وتفرخت بهذا الزخم الذي نراه الآن. اما إذا أردنا تسمية الأشياء بمسمياتها، فلا بد من الخوض في ملفات نتنة من قبيل التفرغ النقابي والريع النقابي وشراء الولاءات وأموال الدعم السخي.. أما وأن ما ستقدمه الدولة للأسر الهشة، فهل تعتقد حقا أن 500 درهم التي ستمنح لهم، كافية لسد رمق عيشهم.. إنه الاستهتار بعينه وغياب المسؤولية التامة عما يُفصح عليه.

جوابا على وهبي: دعنا لا نذكرك بالعقوبة التي صدرت بحقك، والتي قضت بتوقيفك عن مزاولة مهنة المحاماة لمدةأربعة4 أشهر بسبب إخلالك بالمروءة والشرف وأعراف المهنة، ثم لماذا تحشر نفسك في أمر لا علاقة لك به، وبدل أن تحل مشاكل قطاعك المعقدة، ومشاكل حزبك الأعقد، وأن تلجم لسانك عن خرجاتك غير المحسوبة، خاصة وأن الرزانة والتهذب من شيم وزير العدل، فإذا بك تفتي في مجال تجهله جملة وتفصيلا

لنسمي الأسماء بمسمياتها ونقول أن الحكومة تريد بشكل أو بآخر أن تنفض يدها عن التعليم العمومي لأنه مكلف! الظاهر أنه حينما نفكر وفق هذا المنطق، فإننا ننسى أو نتناسى أن ما يمكن أن تقدمه المدرسة للدولة بصفة عامة أهم من كل شيء، لأنه عبر المدرسة تتطور كل القطاعات، فإذا أصابها عطب ما، يصاب جزء جد مهم من جسد الدولة. والحال أن الثورة الفرنسية كمثال، أول ما قامت به بعد نجاحها هو إصلاح التعليم على يد الفيلسوف الشهير دوكندياك، وإن لفي هذا الشأن رسالة واضحة لا غبار عليها.

سنتفق أولا أن المناهج المعتمدة فاشلة، وإننا متفقون أن الحالة التي توجد عليها أغلب المؤسسات جد كارثية من اكتظاظ وقاعات الدرس ومراحيض وطاولات وكل التجهيزات البيداغوجية، لدرجة أن الأستاذ يشتري بعضا منها من ماله الخاص، وكأنه سيكون من المقبول أن يشتري شرطي زيه أو مسدسه أو سيشتري الطبيب أجهزة الفحص والتشخيص وما إلى غير ذلك..

سنتفق ثانيا أن نسبة مخيفة من التلاميذ لا يتقنون القراءة والكتابة والحساب، هو أمر نتحسر عليه كثيرا لأننا نتحدث على بناة وطن المستقبل، لكن المسؤولية يتحملها في هذا الباب كل الشركاء في القطاع، بدءا من الأسرة وصولا إلى المدرس مرورا بوزارة التربية الوطنية ووسائل الإعلام التي تنشر التفاهة وقد أضيف إليهم "المؤثرون" ونجوم كرة القدم ونجوم الغناء الذي لا يمت للغناء بأية صلة.. هي أزمة بنيوية معقدة ومتداخلة بشكل جارف. لكن المفارقة تكمن في نسب النجاح في السنة السادسة من التعليم الابتدائي والسنة الثالثة من التعليم الثانوي الإعدادي، حيث أن جل المدارس تسجل نسبة نجاح %100 إذ لا يعقل أن ينتقل تلميذ إلى مستوى آخر دون تمكنه من أبجديات التعلم. أما نسب البكالوريا فحدث ولا حرج.. هؤلاء إذن يصلون إلى التعليم العالي دون أن يكونوا متمكنين لا من التفكير النقدي ولا من التشبع بروح الإبداع ولا من التمكن من مواد تخصصهم، مع وجود نسبة من المجتهدين الذين لم تكونهم المؤسسة، وإنما تكونوا وفق شروط وظروف بمعزل عنها.

سنتفق ثالثا أن فئة من الأساتذة لا يقومون بواجبهم على أحسن ما يرام، إما بفعل التقاعس أو الانتهازية أو أن التعليم بالنسبة إليهم ليس ميلا بالفطرة، وليس رسالة نبيلة، بقدر ما أنه مهنة لا غير. لكننا سنتفق أيضا أن هناك أساتذة كبار لازال الكل يتذكر أنه درس عندهم، إذ أن لكل فرد منا ذكرى جميلة نحو مجموعة من المدرسين الذي غيروا من شخصياتهم، وكان لهم كبير فضل في نحت ما هم عليه الآن. وبقدر ما نندد بالفئة الأولى، بقدر ما نرفع القبعة للفئة الثانية. لكن الفساد لا يوجد في التعليم فقط، إذا ذهبنا إلى السجون سنجد فيه بعض البرلمانيين الذين منحناهم أصواتنا، فإذا بهم ينفخون جيوبهم، مثلما أن بعض القضاة الذين فوضنا لهم أمر الحكم بالعدالة، هم أول من يخترقها باسم اللاعدالة، ونفس الأمر ينطبق على كل القطاعات دون استثناء، ولنا في فقيه يغتصب قاصرا، أو رجل أعمال يتهرب من الضرائب، أو دركي وضع يده في يد بارون مخدرات، أو صحفي يقول ما لا يجب أن يقال، ويغض الطرف عما يجب أن يقال، أو نقابي يمنح الوظائف لأبنائه وأفراد عائلته أو طبيب يتاجر بحياة الناس، أو محامي يبيع ذمته من أجل المال، أو رئيس فريق رياضي يشتري نتائج المباريات، أو رئيس جماعة أصبح ثريا بقدرة قادر، بعدما كان مستواه المعيشي عاديا، أو شخصا مسؤولا يستغل سيارة الخدمة لقضاء مصالحه الشخصية على حساب أموال دافعي الضرائب، أو مسؤولا في وزارة التجهيز لا يمكن أن يمنحك رخصة السياقة دون أن تقدم له الإتاوة المعلومة، أو مواطن يندد بالسياسة العامة للبلاد، وتراه في نفس الوقت يقدم الرشوة أو يغش في تجارته دون أن يحركه الضمير المهني، أو مشجع فريق يتغنى في مدرجات الملاعب ضد فساد الحكومات، ثم تراه يتاجر في بطائق الدخول باسم السوق السوداء، أو مسؤول أمني يغض الطرف عن أشياء دون أخرى، أو سمسار انتخابي يتاجر بأصوات الناس ابتداء من ورقة نقدية من فئة 200 درهم، أو حارس سجن يشارك فتوة المعتقل في تجارة الممنوعات... لنا في هؤلاء وأولئك أمثلة تنشرها الصحف كل يوم، وتتحدث عنها وسائل الإعلام كل يوم. صحيح أنني لا أعمم، لكن لا أحد سيقول إن قطاعا ما، يقف عليه أشخاص يحركهم الدافع الوطني من أعلى هرمهم إلى أسفله..

إذا خرج الأستاذ يحتج، فلأنه يعلم حقوقه وواجباته، وإذا سألت أي مواطن، فإنه سيندد بغلاء الأسعار والتلاعب في المحروقات واحتكار بعض المواد إلى حين ندرتها من أجل بيعها بثمن أعلى... فلماذا لا يخرج الجميع للتنديد بما وصلنا إليه من أنانية على غرار الأستاذ، مادام أن الكل متفق تمام الاتفاق أن هناك أمورا غير سليمة باتت تسود اليوم، وقد تنفجر في أي وقت وبحدة أكبر.. أنا مع محاكمة كل رموز الفساد من أكبرهم إلى أصغرهم باسم الوطن قبل القانون، بل معاقبتهم بأشد العقوبات على غرار الدول التي تعرف حجم خيانة الوطن، لكن أن يتحد الإعلام وبعض الوجوه النقابية ولوبي القطاع الخاص وبعض الجمعيات والأحزاب السياسية وبعض أطر وزارة التربية، كلهم يتحدون ضد ما يقوم به الأستاذ اليوم، وضد قانون أساسي لا يمت للكرامة بصلة، فإن لفي هذا الأمر شيئا يُطبخ في سرية تامة، ونحن نعرف أنه سيكون لصالح فئة جشعة جدا، على حساب فئة تم تفقيرها وتجويعها والحط من ذوقها، والشاهد على ذلك، أزمة الأخلاق والذوق والاختيار والإبداع التي بتنا نشاهدها اليوم.

العطب ليس في الأستاذ، والدليل على ذلك أن دول الخليج تفضل أساتذة المغرب نظرا لتكوينهم الرصين، والمشكل ليس في التعليم العمومي، والدليل أن أعلى نقط البكالوريا يحصل عليها تلاميذ المدرسة العمومية.. العطب في البنية ككل، وإذا أردنا لها حلا ناجعا، ستكون البداية من المدرسة شريطة أن تقدم منتوجا محترما، والدليل على ذلك، أن نسبة كبيرة مهمة من مسؤولي الوزارة الكبار، لا يدّرسون أبناءهم لا في التعليم العمومي ولا الخصوصي، وإنما في مدارس البعثات بشتى تلاوينها. فأي مثال سنقدمه إذن، وأي تفسير سنفهم به كل هذا الانفصام؟

هو إذن غسيل نشرتُه بكل ما له وما عليه.. كلنا نتحمل مسؤولية الغليان الذي باتت تعرفه جل القطاعات، خاصة الحيوية منها، فإما أن نكون مسؤولين بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وإما أن المستقبل ينذر بما لا يحمد عقباه.