شهد المغرب في الأشهر الماضية موجات من الاحتجاجات الاجتماعية ولا سيما في مناطقه الفقيرة. في هذه الورقة، عرض لأبرز بؤر الاحتجاجات في المملكة، أسبابها دوافعها وتطورات ملفاتها ما بين اختيار المقاربة الأمنية من جهة، والتفاوض مع حاملي المطالب من جهة أخرى.
يشكو سكان عدد من المناطق من التهميش وما يصفونه بأنه "تخلي السلطات عنهم"، ما يُحتم على الحكومة رفع شعار البحث عن "نموج تنموي جديد"، وهو ما باتت تدعو إليه بصورة متكررة، بل جاء ذلك في خطاب الملك محمد السادس خلال افتتاح الدورة التشريعية الحالية.
"لقمة الفحم" تقتل
بانتظار أن تتحقق وعود الحكومة في جرادة، سعيا منها لتهدئة مشاعر الغضب المتصاعدة في المدينة المنجمية السابقة، توجه رئيس الحكومة سعد الدين العثماني إلى المنطقة السبت الماضي، معلنا عن سلسلة من التدابير. غير أن ذلك لم يمنع السكان من تنظيم تظاهرة سلمية جديدة في اليوم التالي.
مدينة جرادة تواجه أزمة معيشية حادة منذ إغلاق منجم الفحم المهم في التسعينيات، وبرزت المدينة عقب تظاهرات سلمية إثر مقتل عاملي منجم في نهاية دجنبر في بئر غير قانونية لاستخراج الفحم الحجري.
اقرأ أيضاً: "بارونات" الفحم بجرادة.. الحقيقة كاملة بالوثائق والشهادات
ولا يزال السكان يتظاهرون حتى اليوم رافعين أعلاما مغربية للتنديد بـ"التخلي" عن مدينتهم والمطالبة بـ"بديل اقتصادي" عن "مناجم الموت" غير القانونية التي يجازف فيها مئات العمال بحياتهم.
احتجاجات زادت حدتها بعد تسجيل وفاة ثانية، نهاية شهر يناير الماضي، بنفس الطريقة، إذ راح شاب ضحية انهيار بئر استخراج الفحم فوق رأسه، وأصيب مرافقه بجروح.
اقرأ أيضاً: العثماني يرد على الاحتجاجات في الريف وجرادة وزاكورة
الريف.. احتجاجات ثم اعتقالات وزلزال سياسي
أثار مقتل بائع السمك محسن فكري (31 عاما) في 28 أكتوبر 2016 سحقا في عربة لجمع النفايات في الحسيمة بمنطقة الريف، عندما حاول الاعتراض على مصادرة بضائعه، وهي صنف من الأسماك محظور صيدها، صدمة في المغرب وتسبب بتظاهرات استمرت لأشهر وموجات توقيفات وعقوبات في أعلى مستويات الدولة، أعفي على إثرها عدد من الوزراء والكتاب العامون ومسؤولون، كما عوقب آخرون بالحرمان من تولي أي منصب رسمي في الدولة، وجاءت هذه القرارات على خلفية تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول "اختلالات" مشروع "الحسيمة منارة المتوسط"، ووصفت قرارات الملك محمد السادس في هذا الشأن بـ"الزلزال السياسي".
اقرأ أيضاً: محاكمة الريف..فهيم الغطاس يروي تفاصيل ليلة القاء القبض على الزفزافي
وكان المتظاهرون يطالبون في بدء الحركة الاحتجاجية بإحقاق العدالة وكشف الحقيقة حول مقتل محسن فكري، غير أن الحركة اتسعت تدريجيا لتشمل مطالب اجتماعية واقتصادية في منطقة الريف المعروفة تاريخيا بأنها تشكو من التهميش وسوء التنمية.
وواجه "حراك الريف"، وأحد أبرز وجوهه الناشط ناصر الزفزافي، تشددا تدريجيا من قبل السلطات التي أوقفت مئات الأشخاص بينهم الزفزافي نفسه. عدد من معتقلي الريف خاصة الذين توبعوا في محكمة الحسيمة تمت إدانتهم بسنوات سجن وحبس نافذة، فيما تستمر فصول محاكمة أبرز قادة الحراك بمحكمة الاستئناف بمدينة الدار البيضاء، وينتظر أن تعقد جلسة أخرى اليوم الاثنين.
اقرأ أيضاً: متهم في حراك الريف: أعترف بالمس بالسلامة الداخلية للفساد
زاكورة.. انتفاضة العطش
وعلى مسافة 900 كلم من العاصمة الرباط، عانت مدينة زاكورة، كبرى مدن الجنوب، في أكتوبر 2017 أزمة مياه حملت سكانها على النزول إلى الشارع في "مسيرات العطش" احتجاجا على الانقطاع المتكرر للمياه.
احتجاجات العطش عرفت بدورها تدخلاً أمنياً، واعتقالات انتهت بمحاكمة عدد من الموقوفين، أدين مجموعة منهم وبرئ آخرون من التهم الموجهة إليهم.
اقرأ أيضاً: أحكام بالحبس النافذ لمعتقلي "انتفاضة العطش" بزاكورة
خلفيات الاحتقان الاجتماعي
في سياق كل هذا، أوضح الخبير السياسي محمد ضريف لوكالة "فرانس برس"، أن "المغرب عرف في السنوات العشر الأخيرة احتجاجات مماثلة في مدن أخرى مهمشة".
ففي 2007 هزت تظاهرات مدينة صفرو احتجاجا على غلاء أسعار المواد الغذائية الأساسية. وبين 2005 و2009 جرت تحركات شعبية في سيدي إفني وبوعرفة، احتجاجا على سوء التنمية. كما شهدت مدينة تازة تظاهرات مماثلة عام 2012 على خلفية ضيق اجتماعي.
غير أن الحراك الحالي وتظاهرات العقد الماضي تختلف عن الاحتجاجات العنيفة التي جرت في الثمانينات.
بدوره، قال الخبير الاجتماعي عبد الرحمن رشيق الذي أصدر كتابا مرجعيا حول التحركات الاجتماعية، متحدثا لوكالة "فرانس برس"، إن "الاحتجاجات الاجتماعية انتقلت من ظاهرة الشغب التي تتسم بعنف دام سواء من جانب السكان أو من جانب الدولة إلى التظاهرات والاعتصامات والمسيرات، وميزتها التحركات الجماعية السلمية".
اقرأ أيضاً: حوار حصري.. بنعبد الله: احتجاجات الريف وُظفت ولا علاقة لها بمشروع "الحسيمة"
وهو يعتبر أن خريجي الجامعات الشبان العاطلين عن العمل والتنظيمات النقابية "لعبت دورا كبيرا" في هذا التحول في نمط الاحتجاجات. كما أن موقف الدولة حيال الحراك تطور. وحتى في أزمة الريف، حاولت السلطة بموازاة تصديها بشدة للتحركات، التعامل معها بإطلاق أو تحريك سلسلة من المشاريع الإنمائية. وانطلاقا من ذلك، عمدت حتى الآن حيال جرادة إلى "حوار مفتوح"، وأعلنت السبت عن تدابير يفترض أن تلبي المطالب المرفوعة. ولفت ضريف إلى أن الاحتجاجات "تجري جميعها في مدن صغيرة تعاني من التهميش والفقر وقصور في البنى التحتية".
وفي دراسة صدرت عام 2010، لخصت الباحثتان الجامعيتان كارين بنعفلة ومونتسيرات امبيرادور تعبئة سنوات الألفين، فكتبتا أن هذه التحركات "تكشف عن الإحساس بالتهميش لدى سكان يعيشون في مساحات-هوامش، مناطق جبلية معزولة أو أرياف نائية، ويرسمون صورة مغرب وصف في زمن الانتداب بأنه غير مجد"، بعيدا عن حيوية محور الأطلسي الممتد بين طنجة والرباط والدار البيضاء.
وتبقى هذه القراءة للأحداث صحيحة إلى اليوم من شدة ما تعاني المملكة من تباين اجتماعي ومناطقي صارخ، على خلفية البطالة المتفشية بنسب مرتفعة بين الشباب. وأشار تقرير صدر في أكتوبر إلى أن الفقر الشديد ما زال منتشرا في المناطق المعزولة من المغرب.
اقرأ أيضاً: الرميد3/3: "التعذيب" لازال موجودا في المغرب.. وهذه آلية التصدي له
وأوضح رشيق أنه إن كان السكان يرون في ما مضى الفقر "على أنه طبيعي، فإن عملية انفتاح النظام السياسي المتسلط، وارتفاع الأصوات والأمل في تغيير ممكن، كلها تشكل العوامل الأولية التي تغذي الاستياء الجماعي".
وبات البحث عن نموذج تنمية جديد لازمة يرددها المسؤولون منذ أن أعلن الملك محمد السادس أن "النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية".
غير أن ضريف رأى أن "نموذج التنمية الاقتصادية غير المجدي هو نتيجة النموذج السياسي" وهو يعتبر أن "مراجعة النموذج الاقتصادي يجب أن تمر عبر خيارات سياسية جديدة من ضمنها إدخال الديموقراطية إلى المؤسسات وتوسيع نطاق الحريات".
المصدر: فرانس برس بتصرف