تجارب مقارنة.. دراسة "تسقيف الدولة الاجتماعية" تحذر من "الآثار العكسية" للسجل الاجتماعي الموحد

محمد فرنان

 استشرفت دراسة حديثة، نشرها المركز المغربي لتحليل السياسات عددا من "الآثار العكسية أو غير المرغوبة التي يمكن أن تترتب عن تفعيل السجل الاجتماعي الموحد".

وقبل خوض عبد الرفيع زعنون، الباحث في القانون العام والعلوم السياسية، في دراسته التي حملت عنوان "تسقيف الدولة الاجتماعية"، شدّد على أنه "من السابق لأوانه الحكم على الآثار العكسية أو غير المرغوبة التي يمكن أن تترتب عن تفعيل السجل الاجتماعي الموحد، طالما أن تفعيله من الناحية العملية بشكل تام وشامل لن يتم إلا في أفق 2025 في ظل التأخر الحاصل الذي تعرفه عمليات الجرد والتصنيف، وأيضا بظهور تحديات ماكرو اقتصادية جديدة ستكبح “جماح” الإصلاحات الاجتماعية بشكل عام".

مع ذلك نبه إلى أنه "يمكن استشراف الملامح العامة لتداعيات تطبيق المنظومة الجديدة للاستهداف، انطلاقا من استقراء الإشكالات التي تطبع الأطر التشريعية والتمويلية والتدبيرية التي قد تكرس الإقصاء وتحجم من مدى الإدماج، مع الاسترشاد ببعض التجارب المقارنة التي استلهم منها المغرب بعض ملامح نموذجه الخاص بالشباك الاجتماعي الموحد".

نزعة إقصائية

 وأوضح أن "مقتضيات القانون رقم 77.18 تطرحُ عدة إشكالات، فالاستناد على تعريف المندوبية السامية للتخطيط لمفهوم الأسرة، يحتمل نزعة إقصائية في حق بعض الفئات الهشة، لأنه يستبعد النساء في وضعية صعبة، والأشخاص بدون مأوى، والمشردين وأطفال الشوارع، الأمر الذي سيجعلهم من الناحية القانونية محرومين من الاستفادة من دعم عمومي منتظم ومهيكَل خارج التدابير الإحسانية والحملات الظرفية".

وأكد أن "اشتراط التواجد في مكان واحد فهو لا يراعي وضعية الأسر التي لا تستطيع الإدلاء بما يثبت محل سكناها، كما هو الحال مع الأشخاص القاطنين بمدن الصفيح. وكما أن آلية الاستهداف القائمة على التصريح الذاتي، قد تكرس إقصاء غير مباشر في حق الأشخاص الذي يعانون من الأمية ومن ضعف تملك واستعمال الآليات الحديثة للاتصال".

ودعا إلى "تقوية آليات جمع المعلومات بعدم الاقتصار فقط على الطلب التلقائي، بل عبر أعمال تكميلية للوصول إلى الفقراء المعزولين ممن لم تشملهم حملات تجميع المعطيات، كالقيام بحملات بالأسواق الأسبوعية وتوجيه وحدات متنقلة إلى المناطق النائية، إلى جانب الاستعانة بالجمعيات المحلية وبالأشخاص المرجعيين (personnes référentes) على صعيد كل جماعة قروية".

التقنية في خدمة التقشف

وأشار إلى أن "المادة 11 من القانون 77.18 المعايير المعتمدة في وضع وتحيين الصيغ الحسابية لتنقيط الأسرة مع الإحالة على نص تنظيمي لضبط متغيراتها، الأمر الذي قد يقيدها بشروط تقنية تقلص من عدد المستفيدين المحتملين لتصبح التقنية في خدمة التقشف. نفس الأمر بالنسبة للائحة المعطيات الاجتماعية والاقتصادية التي لم تحددها بتفصيل المادة 14، مما قد يحد من الطابع الموضوعي للإحصاءات المترتبة عنها".

وأبرز صاحب الدراسة، أن "سكوت المشرع عن إحداث آلية لتوحيد عتبة الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي التي يقدمها مختلف المتدخلين، قد يكرس “إقصاءا نظاميا” في حق الفئات المحتاجة في حال لم يتم ضبط السقف الذي يخول الاستفادة من الدعم بمعايير دقيقة، تكفل حصول كل الأسر الهشة على البرنامج الذي يناسب وضعيتها، مع الأخذ بعين الاعتبار عنصر الميزانية بحيث قد تستغل مشكلة ضعف أو عدم استقرار الموارد المالية كمبرر لتقليص الدعم الاجتماعي".

أداة لتفقير الفئات الدنيا من الأسر المتوسطة

وتابع: "لا شك في أن هناك خلفية اجتماعية للمشروع، حيث يهدف بشكل مباشر إلى الإنصاف في توزيع الموارد العمومية بما يمكن من تقريب الفجوة بين طبقات المجتمع. ومع ذلك، فإن المنطق الذي يحكم هذا الإصلاح قد يؤدي في الواقع إلى عكس ذلك، لأن خلفيته “الطبقية” لتقليص التفاوتات الاجتماعية قد تقود نحو “استهداف منهجي” للطبقة الوسطى التي تعد صمام الأمان للنسق السوسيو اقتصادي، خاصة في ظل اللبس الذي يكتنف تحديدها والتدهور الذي تعرفه أوضاعها، بشكل قد يجعلها تتحمل فاتورة الإصلاح نتاج رفع الدعم عن المواد المعيشية وبإرهاقها بضرائب اجتماعية تحت يافطة التضامن".

 وشدد هلى أنه "لا شك في كون التمويل الضريبي يعد مدخلا أساسيا لإعادة توزيع الثروة ولتحقيق التنمية الاجتماعيةـ لكن المشكلة تكمن في أن توسيع نطاقه بمبرر المساهمات التضامنية في السياسات الاجتماعية قد يهدد بتحويله من رافعة لتحقيق التماسك الاجتماعي إلى أداة لتفقير الفئات الدنيا من الأسر المتوسطة، إذا ما أخذنا في الحسبان التقلبات المستمرة لأحوال فئات تستحق إخراجها من أنظمة الدعم، مقابل تدهور أوضاع فئات أخرى تستحق الإدماج".

وطالب بـ"القيام  بتحيين مستمر للبيانات الاقتصادية والاجتماعية لضمان الفعالية المستمرة لمنظومة الاستهداف، من خلال استيعاب وإدماج التغيرات التي تمس بنية الأسرة (الازدياد، الوفاة، الانفصال…) وطبيعة سكنها (نوع السكن، محيط قروي أوحضري)، وكذا ظروفها الاقتصادية والاجتماعية (تحسن أو تراجع الدخل وشروط العيش، مستوى الفقر…)".

تدهور القدرة الشرائية

ولاحظ أن "التباطؤ في تنفيذ الأجندة الزمنية لمنظومة الاستهداف الاجتماعي يقابله تسارع كبير في التحولات الاقتصادية والاجتماعية، التي قد تضع على المحك مصداقية الصيغ الحسابية والمعايير المعتمدة في تنقيط الأسر وحصر قوائم مستحقي الدعم الاجتماعي، على اعتبار أن تدهور القدرة الشرائية جراء تفشي موجات الغلاء سيوسع من القاعدة الاجتماعية المستحقة للدعم ومن السقف المحدد للتحويلات المالية المباشرة، كما سيعقد من مهمة وضع عتبة منصفة لاتخاذ قرارات منح الدعم وإدخال أو إخراج الأسر من منظومة السجل الاجتماعي الموحد".

مزالق الإقصاء التقني

وأبرز أنه "كما أسلفنا ترتبط الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي بحصول الأسر على نتائج تنقيط تتموقع ضمن العتبة المحددة بناء على البيانات المدلى بها، لتتكفل البرمجيات بمنح مؤشر خاص للأسرة على أساسه تدمج أو تقصى من البرامج الاجتماعية. وهنا تكمن المعضلة، حيث يتعامل المُعالج الآلي بشكل حسابي وتقني مع أوضاع اجتماعية وإنسانية معقدة".

وتابع: "بدأت بعض المخاطر في الظهور، فالعديد من الأسر مُنحت مؤشرات مرتفعة أقصتها من الاستفادة المجانية من نظام التغطية الصحية، ويحتمل أن تقصيها من برامج الدعم بحكم تصريحها بامتلاك معدات أصبحت ضرورية كالتوفر على هاتفين أو على أكثر من قنينة غاز، لكن “المَعْيَرَة التقنية” تُدخِل ذلك في نطاق “الكماليات”، مقابل ذلك مُنحت أسر أخرى مؤشرات دنيا تخولها الاستفادة من البرامج الاجتماعية بناء على الإدلاء ببيانات غير حقيقية".

وأوضح أن "هذه المعضلة تتطلب تعبئة موارد بشرية متخصصة مع تكثيف عمليات المراجعة لجعل المعالجة الحاسوبية أداة لتحسين كفاءة منظومة الاستهداف، وإلا فهي قد تضرب في العمق بمصداقية بيانات السجل الاجتماعي الموحد، وقد تورث بعض أشكال الغش والتدليس للتحايل على مخاطر الإقصاء التقني. نشير كذلك إلى أن ضعف صيانة وتطوير المنصة المعلوماتية للسجل الاجتماعي الموحد ستجعله عديم الفائدة فيما يخص تنقيط الأسر، على غرار تجربة بنغلاديش حيث أدى تراجع الدعم التقني للسجل الموحد (NHD) إلى جعل معطياته متجاوزة وماسة بمصداقية منظومة الاستهداف".

شرعنة نموذج الدولة “الأدنوية”

ولفت إلى أنه "من خلال متابعة الخطاب الرسمي المصاحب لتفعيل السجل الاجتماعي الموحد نستشف بعض إرهاصات النزوع نحو “الترسيم” النهائي للمنطق النيوليبرالي في التدبير العمومي، من خلال تقليص التمويلات المخصصة للتنمية الاجتماعية والاقتصار فقط على برامج محددة لها منافذ مالية “غير مرهقة” للميزانية العامة، مثل التمويل الضريبي وتوسيع نطاق نظام الاشتراك ليشمل حتى الفئات ذات الوضع الاقتصادي غير المستقر، وهو نزوع قد يتجذر أكثر في ظل سعي الحكومة نحو توظيف رهانات عقلنة البرامج الاجتماعية كمشجب للتفكيك النهائي لصندوق المقاصة، حيث ما فتئت قوانين المالية منذ 2020 تربط بشكل آلي بين تفعيل السجل الاجتماعي الموحد لتحقيق استهداف أكثر فعالية وبين الإصلاح التدريجي لنظام المقاصة بهدف توفير هوامش مالية لتمويل السياسات الاجتماعية، وهو إصلاح على الرغم من راهنيته من الناحية المالية، فقد تكون له انعكاسات عكسية على غرار الآثار الناجمة عن تحرير أسعار المحروقات منذ 2015، حيث اتضح أن الاستهداف شمل كبار الفاعلين في سوق المحروقات بدلا من المواطن".

الارتدادات العكسية للدعم المباشر

وذكر أنه "على الرغم من أن تجاوز الدعم المعمم للسلع الأساسية سيمكن من إعادة توجيه الإعانات العمومية نحو الفئات المستحقة، ومع ذلك يمكن أن يسفر عن تداعيات سلبية في حال لم يصاحب بتدابير احتياطية لضمان وصول الدعم المباشر لمستحقيه ولتدارك الضرر الذي قد تجابهه الفئات المتوسطة. تجربة الجزائر تعكس هذا المشهد، حيث أفضت الحلول التقنية المتعلقة بتقليص الدعم عن المحروقات والمواد الاستهلاكية والاعتماد المتزايد على الأشكال المباشرة للمساعدة الاجتماعية إلى تكريس حالة من التخلي الجزئي غير المعلن عن سياسة الدعم الاجتماعي دون بدائل اقتصادية مواكبة".

وسجل أن "اتساع الفجوة بين الدعم المالي الثابت وبين الطفرات غير المسبوقة في الأسعار سيجعل من الدعم غير قادر على تحقيق الغرض المتوخى منه، فلا هو ساعد الأسر على العيش بكرامة ولا تم تخصيصه لتمويل سياسات عمومية كان يمكن أن تنتج الثروة وفرص الشغل وتعزز الأمن الغذائي والطاقي".

لذا، حسب الدراسة، "يتعين الوعي بخصوصيات وسياقات النماذج الدولية بدل التماهي المطلق معها، كما فعلت بعض الدول العربية التي حاولت النقل الحرفي لتجارب من أمريكا اللاتينية بدون مظلة تنموية تكفل نجاح برامج المساعدة الاجتماعية، وعلى غرار مصر عبر برنامجي تكافل وكرامة للتحويلات النقدية المشروطة، وبالتالي، يجب أن نشير إلى أن فعالية برامج الدعم الاجتماعي تعتمد على وجود سياسة اجتماعية متكاملة تركز على التأهيل والحماية، بهدف تضييق نطاق الدعم الاجتماعي ليشمل فقط الفئات التي لم تستطع أن تتوفر على شروط العيش الكريم، نتاج ظروف موضوعية وذاتية".

مخاطر التحويل النقدي المشروط

وأفاد المركز أن "تعميم هذه الآلية خطوة إيجابية ولكن يجب أن ندرك مخاطرها. فارتهان الميزانية الاجتماعية للمتغيرات السياسية والاقتصادية يهدد باستمرار المساعدات المالية المباشرة أو بتخفيض سقفها في ظل اتساع الفجوة بين استقرار أو خفض الميزانيات المرصودة للبرامج الاجتماعية وبين ارتفاع أعداد المستفيدين كما حصل لعدة تجارب دولية، مثل نيكاراغوا حيث انعكس انخفاض ثمن البن في بداية الألفية على المستفيدين من برنامج شبكة الحماية الاجتماعية (Red de Protección Social) إلى حد إخراج آلاف الأسر لأبنائها من المدارس جراء تراجع حجم الدعم المباشر".

وحذر من "استفحال معدلات التضخم من شأنه إفقاد التحويلات قيمتها و بالتالي التأثير على وظيفتها في حماية القدرة الشرائية، نفس الأمر بالنسبة لإثيوبيا، حيث أثرت تداعيات موجات الجفاف وتكلفة الصراع حول إقليم “تيغراي” على قيمة الدعم المالي المباشر وعلى انتظامه. وبالتالي، يجب اتخاذ تدابير استباقية لمواجهة المخاطر التي قد تهدد استقرار واستمرارية التحويلات المالية المباشرة الموجهة للفئات الهشة".