رحم الله ستيفن هوكينغ

محمد عبد الوهاب رفيقي

كتبت قبل بضع سنوات تدوينة عن الراحل نلسون مانديلا يوم وفاته، مثنيا على نضاله وما قدمه لوطنه خاصة وللإنسانية عامة، متمنيا له رحمة ومقاما طيبا في منزله الجديد، لست بحاجة للتذكير بما أثارته هذه التدوينة من ردود فعل متشنجة من طرف كهنة المعبد الجدد، زاعمين أنني نقضت ثابتا من ثوابت العقيدة، وهو الحكم بجزم على كل من مات على غير الإسلام بالنار خالدا مخلدا فيها أبدا، ناقشني بعضهم نقاشا مستفيضا ومباشرا، في دهشة واستغراب، كيف أرجو للرجل الذي قدم حياته من أجل غيره الجنة والنعيم في أخراه؟.

يتجدد هذا النقاش اليوم، وبدرجة أكبر وأقوى، مع وفاة عالم الفيزياء البريطاني الكبير ستيفن هوكينغ، انطلقت مرة أخرى في مجتمعاتنا البئيسة حملات التأله وارتداء ثياب الربوبية والخلق، وفيما ينشغل العالم بذكر الفقيد وإنجازاته وآثاره الخالدة، لا حديث في وسائل تواصلنا إلا عن جواز الترحم عليه من عدمه، والتنقيب في معتقدات الرجل وديانته، ومصيره في العالم الذي رحل إليه.

لم يكن من المفاجيء بالنسبة لي أن يثير بعض" شيوخ" الظلام و"دعاة" الكراهية مثل هذه النقاشات التي وإن بدت عقيمة وتجاوزها الزمن، لكنها ذات تأثير في كثير من الفئات التي لا زالت ترى في هؤلاء المتألهين نوابا عن الله وحماة للدين والشريعة، فضلا على أن الأمر يستدعي الوقوف بجدية على ما يدفع أمثال هؤلاء لتفريغ مكبوتاتهم من الحقد والكراهية في مثل هذه المناسبات، وما يجعل موقفهم من الآخر بكل هذا التشنج والتوتر.

الأمر في حقيقته يتجاوز هؤلاء جميعا، فهم مهما حاولوا من إظهار نوع من التعالم والتفقه المزيف، ليسوا إلا مقلدة بسطاء لفقه تقليدي منتج لهذه الأفكار، متضمن لكثير من الأحكام القاسية تجاه الآخر، هم فقط حولوا ما تلقوه عن شيوخهم، وما درسوه في محاضنهم، وما أخذوه من كتبهم، لمواقف وأحكام على الأعيان والشخصيات والمشاهير.

الفقه التقليدي بمجمله يتبنى موقفا واضحا من الآخر، وهو أن الكافر غير المسلم مصيره جهنم خالدا فيها أبدا، منطق يبني تصوره على أن الجنة بعد بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام جعلت حصريا للمسلمين، وما سواهم من البشرهم حطب جهنم ووقودها يوم القيامة، فمن يبتغ غير الإسلام - بالفهم التقليدي للإسلام- لن يقبل منه أي عمل صالح، مهما كان صادقا في سريرته، نقي النفس في أخلاقه وتعامله، بل مهما قدم للبشرية من إنجازات أدخلت السعادة ويسرت على الإنسان حياته ومصالحه.

هو منطق الولاء والبراء المأزوم، الذي يعتبر الداعشي المسلم الذي مارس الذبح والقتل والاغتصاب، مسلما رغم كل ما فعل، مصيره الجنة حالا أو مآلا، منعما خالدا فيها، غفرت له كلمة واحدة كل جرائمه وذنوبه، ويجوز الاستغفار له وطلب المغفرة له، فيما يعتبر " الكافر" الذي اخترع الكهرباء والطائرة والأنترنت والهاتف النقال والفايسبوك مجرما مخلدا في النار، لا يجوز الاستغفار له ولا الترحم عليه، بل لا يستحق سوى اللعنة والدعاء بالويل والثبور، وكل ما قدمه للإنسانية لا يساوي إلا " الهباء المنثور".

بشاعة وأي بشاعة نقدم بها أنفسنا أمام الآخر، حين يبذل الآخرون حياتهم وعقولهم وراحتهم من أجل إسعادنا، فنقابلهم بكل هذه الأحكام الوحشية، بل لا نستحيي من استعمال الفايسبوك والتويتر وغيرها مما اخترعه ذلك " الكافر"، لنصب لعنتنا عليه، في مشهد أخلاقي رديء، ينبيء عن كثير من قبحنا الذي لا بد اليوم من تعريته وفضحه.

المضحك المبكي في الموضوع، أن ذلك الذي ليس له من إسلامه إلا الوراثة، ولو ولد في الهند لكان اليوم بوذيا أو هندوسيا، هو من يرى أنه من يمتلك مفاتيح الجنة والنار، له كل الصلاحية في أن يدخل لها من يشاء ويخرج من يشاء.

هو الذي يقرأ يوميا في صلاته " الرحمن الرحيم"، لكنهم يرونها رحمة بمقاسهم، بمقاس عقولهم ورغباتهم، هي حالة مرضية من التأله، يصفون بها حساباتهم النفسية أمام من هزمهم بعلمه وعقله وفكره.

ستيفن هوكينغ انتصر حيا وانتصر ميتا، قصته ومساره وإنجازاته ومرضه انتصار للحياة، بل آية من الأيات، موته كان كذلك انتصارا، حين انهزم  هؤلاء الموتورون أمام عبقريته الفذة، فلم يجدوا إلا التهجم والتشفي تبريرا لهزائمهم، كما لو أن الموت هو انتصار وهزيمة، كما لو أن ذلك الآخر عدو يحل الرقص على جثته يوم وفاته ورحيله.

لقد هزمنا هوكينغ إنسانيا، هزيمة أخرى تنضاف إلى سلسلة الهزائم التاريخية، هزمنا حضاريا، هزمنا علميا، هزمنا نفسيا، واليوم نسجل مرة أخرى هزيمتنا إنسانيا، فماذا بقي إذن؟

سئل عالم كبير :  لو قررت البشرية أن ترسل أحدهم إلى حضارة أخرى أكثر رقيا ليمثل سكان الأرض ، فقال: لن نجد افضل من ستيفن هوكينغ…

بإمكاننا الآن أن نترحم رحمتين: رحم الله ستيفن هوكينغ، ورحم الله ما بقي فينا من إنسانية.